السترات الصفراء ولحظة الفرز

السترات الصفراء ولحظة الفرز

21 ديسمبر 2018
+ الخط -
تراجع عدد متظاهري السترات الصفراء في الشوارع الفرنسية يوم السبت الفائت، وخصوصا في باريس التي حشدت فيها الدولة قوات أمن وحفاظ على النظام فاق عددها المتظاهرين الذين لم يتجاوزوا أربعة آلاف، حسب وزارة الداخلية. وشكل التراجع مؤشرا هاما لقراءة هذه الحركة التي لم تأخذ بعد لونا سياسيا واضحا، أو تبلور خطابا سياسيا متماسكا، على الرغم من صراحة اللهجة الاحتجاجية وقوتها.
لا شيء يشغل فرنسا حاليا سوى تداعيات هذا الحراك الذي بدأ في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، وتطوّر بسرعة شديدة إلى حد أنه تمكن، خلال زمن وجيز، من إحداث هزّة سياسية كبيرة، وشد اهتمام الرأي العام، المحلي والخارجي. وبسبب الطابع العنفي الذي أخذته المظاهرات في باريس، في الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تحوّل الحراك إلى حدثٍ عالمي. وتعطي وسائل الإعلام أهمية كبيرة لمتابعة هذا الحدث والإضاءة عليه، وتخصص مساحات للمحللين والمفكرين من أجل تفكيك هذه الحركة، ومحاولة تحديد معالم الطريق الذي سوف تسلكه في المستقبل. والملاحظ، عموما، هو الإجماع على عنصر المفاجأة. وعلى الرغم من أن فرنسا من البلدان التي تمتلك أجهزة وهيئات ومراكز أبحاث ودراسة متخصصة في دراسة المستقبل وقراءته عن بعد، فإنها لم تلتقط أو تستشعر قدوم حدثٍ على هذا القدر من الأهمية والخطورة.
وفي هذه الأيام، يجري الحديث عن احتمالات حصول فرز سياسي داخل هذا الحراك الذي لاحظ المتابعون أنه يتشكل من خليطٍ غير متجانس، يمتد من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، على الرغم من أنه يرفع شعاراتٍ مطلبيةً واحدة. وتسود قناعة أن الحراك تجاوز البعد المطلبي منذ خرج الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في العاشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، ليعلن سلسلة من الإجراءات، تلبي، في مجملها، المطالب التي رفعها المتظاهرون، وتتعلق برفع الضرائب على المحروقات، وتحسين القدرة الشرائية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذا أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع أعداد المتظاهرين، وستنعكس على استمرارية الحركة في الفترة المقبلة.
وتكمن أسباب حصول الفرز في نزعة الاستثمار السياسي للحركة من جهة، ومن جهة ثانية إعطاء الحركة طابع الديمومة، في ظل ضعف النقابات، وتراجع دور أحزاب المعارضة في البرلمان. وتتزايد الدعوات في أوساط واسعة إلى ضرورة تمييز نفسها سياسيا، وعدم السماح لقوىً سياسيةٍ شعبوية، تطمح إلى تكبير حصتها من الشارع الانتخابي أن تستغلها، وتركب على ظهرها. وهنا يجري الحديث عن اليسار واليمين المتطرّف في الوقت نفسه، على الرغم من أن التوظيف برز أكثر من اليمين المتطرّف، بقيادة مارين لوبان التي كسبت حوالي ست نقاط في استطلاعات الرأي، نتيجة استثمار الحراك. ويضغط الشارع الذي يقف في الاتجاه المعاكس لليمين واليسار المتطرف، كي يقيم الحراك مسافةً عن هذين المكونين، وخصوصا اليمين الذي يتهمه إعلاميون وسياسيون بممارسة العنف، من أجل تأجيج التحرّك، وتحويله إلى فوضى عارمة، وهناك حالة سخط ضد انتهازية التطرّفين اليساري واليميني.
وينشغل اليسار غير الشعبوي بهذه الحركة التي يرى أنها تحمل في داخلها كل ما يعتمل في داخل فرنسا من احتجاج طيلة عقود من تراجع دور الدولة والحياة السياسية، وهو ما سمح للتطرّف بأن ينمو في الحدائق الخلفية، وصار يهدّد بإلحاق أضرار بالديمقراطية. وكان لافتا التصريح الذي صدر عن وزيرة العدل الفرنسية السابقة، كريستين توبيرا، التي حمّلت اليسار المسؤولية الرئيسية عن الحراك الاحتجاجي، واعتبرت أن تقصير اليسار في الماضي قاد إلى هذه اللحظة الحرجة. وإنْ لم يتم تدارك الموقف، فإن الآتي أخطر، ورأت أن اليسار هو القادر على تقديم مخرج سياسي من الأزمة، في ظل النقمة العارمة ضد الرئيس الذي وصلت شعبيته إلى الحضيض.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد