فصل في الجحيم

فصل في الجحيم

03 ديسمبر 2018

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
الشعراء يتخيلون، أو يحلمون أنهم فعلوا: رؤية الجانب الآخر من الحياة. يمكن القول إن الفن عموماً دأب على تجاوز قفص الواقع.. لم يقبل الإنسان مطلقاً أنه ابن هذا التراب وأن مصيره إليه. لذلك كتب ورسم وغنى وتدين. في تراثنا خزانة كبيرة من النصوص التي تتناول قضية "الخلود". كما لدينا نص باهر في "رؤية" العالم الآخر والرحلة إليه هو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وهو سابق، كما نعرف، لنص دانتي "الكوميديا الإلهية"، ومختلف عنه بالطبع. أعدُّ كتابا للنشر، فوجدت، في الأثناء، أني قمت بـ"رحلة"، ليس للعالم الآخر، ككل، بل إلى الجحيم/ الذي قد يكون "مصير" الشعراء!!. أليس هذا ما يفعله ابن القارح في حواره مع معظم شعراء "الجاهلية" إن لم يكن كلهم؟
فماذا رأيت في هذه الرحلة الخاطفة:
اجتزت الطبقة الأولى من الجحيم حيث
الذين يرون ولا يفعلون شيئاً
والثانية حيث الممسكون عن قول كلمة تصنع فرقاً
والثالثة حيث الكذابون
والرابعة حيث المنافقون
والخامسة حيث خونة الأمانة
والسادسة حيث إخوة يوسف يدبغون قمصاناً بيضاً بدمٍ كَذِبٍ
والسابعة حيث أولئك الذين يشبهون الحيوانات الوديعة
لكنهم ينشبون أنيابهم ومخالبهم في أجساد الضعفاء.
بلغت قاع الجحيم، هذه أشدّ طبقاته ظلاماً، هنا يتمدَّد ليلُ الليل مطعوناً بالبروق والصواعق. النباح، العواء، الأزيز، الأنين. لغات بشر كانوا يتكلمون ويصفون وربما يغنون أو يكتبون شعراً. أهذه لغاتنا من الآن فصاعداً، أم همهمات ما قبل النطق؟ حتى لو أردت أن تقول، أو تشهد، بعد فوات الأوان، فلن تستطيع، هنا تتجسَّد الأفعال فقط. نصبٌ مرفوعة على أعمدة من لهب. بلا كلمة أو لفظ. أهي نهاية هؤلاء الذين يمشون على قائمتين، أم بدايتهم؟ بروق تتلامع. شرر يتساقط من جهات أربع. أضواء تنفجر مثل شرايين وتنطفئ. رأيت وجوهاً أعرفها تسيح. ورود تطلع من الصدور تتحول أفاعي تنقض على النحور، ترتد ثم تعود. رقصة أبدية بين ضلع ونحر. وهذه الأشجار التي لا تحترق تلفُّ أغصانها على أعناق رجال في حِلل رمادية لا طعجة فيها. وهذه الأشن الخضراء التي تتجمَّع وترقص على وقع مزامير قادمة من مصاهر الحديد. طين يغلي. حمأ مسنون. أنهار كبريت. يا للروائح التي تنبعث من الأرجاء. من هم أصحاب هذه الوجوه الأليفة في أجساد خراتيت، وحيدي قرن، فقمات، فيلة؟ هذا الشاعر، ذو الشعر الطويل الأشيب، أعرفه. سألته: لِمَ أنتَ هنا؟ فقال: لأني رأيت، وسمعت، ووضعت يدي على منبت الوحش، ولما عدت إلى بيتي نمت.
ولكن هل يحشر الشعراء في الجحيم؟
يحشرون. يوجد عدد منهم هنا.
رأيت على الفور ثلاثة شعراء أعرفهم فقلت لأولهم:
أنت، كيف انتهيت إلى مصهر الحديد،
تسكب هذه الدلاء على جسدك فيطلع لك جسد جديد
ثم تسكبها ثانية وهكذا إلى ما لا نهاية؟
لأني كسول وأناني، عشت على كلمات كدح فيها آخرون وأنا أغطُّ في النوم، فنسبتها إلى نفسي وصرت بفعلها شهيراً.
ثم قلت للثاني الذي كان ينقل عناكب من لهب براحتيه: ما كنت أظن أني سأراك هنا.. فماذا فعلت؟
فقال: طعنت معلمي في ظهره ورميت هذه الفعلة الخسيسة على شرير عابر، فصدَّقوني.
أما الثالث فكان متوَّجاً بأسلاك حادّة تحزُّ جمجمته الصلعاء،
فقلت له: يا له من إكليل مريعٍ، كيف نلته؟
أجاب: بسدّ الطريق أمام الشعراء الشباب والتشنيع عليهم في المحافل.
فجأة رأيته. كأنه انكشف لي لنتحدث: كانوا يطعنونه بأقلام من ذهبٍ متوهج:
قال لي ما إن رآني:
ألم نتفق أن نلتقي هناك قبل رحلتي إلى الموت؟
بلى.
لكنك لم تأت.
بل جئت ولم تكن موجوداً.
قلت له: كيف يمكن أن تكون هنا، فماذا اقترفت مما لا نعرف؟
يقولون: كنت أرتدي ثياباً أنيقة، وشعبي فقير.
أو إنني لم أشاهد كثيراً في المقاهي.
قلت له: ولكن الله لا يحاسب على أمور تافهة كهذه.
كيف تعرف؟
لا أعرف.
هناك دعوى ضدي.
دعوى ضدك؟
صحيح.
لماذا؟
لأني تركت شاعراً نجا من المحرقة يكسب قضية الألم.
وماذا عن قضية الأرض؟
- يرثها عبادنا الصالحون.
لم يكن عذاب هؤلاء شيئاً أمام عذاب الرجل/ الزرافة، فقد كان الزبانية يجزون رأسه ويتقاذفونه من وادي الأفاعي إلى وادي العقارب، ثم ينبت له رأس جديد فيعيدون جزَّه وتقاذفه بلا توقف.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن