الاحتجاجات وتَجَدُّد الديمقراطية

الاحتجاجات وتَجَدُّد الديمقراطية

20 ديسمبر 2018
+ الخط -
يمتلك المشروع السياسي والديمقراطي قدرة كبيرة على التجدّد، ويقدّم الشكل الإجرائي لكثير من مبادئه، ما يتيح إمكانية ابتكار الحلول القادرة على تجاوُز الأزمات التي تخترق أداءه السياسي ونظامه في العمل. وتقدِّم الأزمة التي تعرفها الديمقراطية الفرنسية اليوم، والمترتِّبة عن الاحتجاجات التي شملت العديد من مُدُنها، منذ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مثالاً واضحاً على المآزق التي يمكن أن تواجه الأنظمة الديمقراطية، بما في ذلك أنظمة المجتمعات التي تَعْتَدُّ برسوخ تقاليدها الديمقراطية.
نقرأ حركة الاحتجاجات المتواصلة في فرنسا باعتبارها أكبر من مجرد حركة احتجاجية عابرة، إنها فعل يتسع ويتصاعد، ليضع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وحكومته في مأزق سياسي. نتبيَّن كثيراً من جوانب هذا المأزق، في بعض جوانب برنامجه في الإصلاح الاقتصادي، وهو البرنامج الذي عبَّر عن خطوطه العريضة في حملته الانتخابية، فقد رأى فرنسيون كثيرون أنه برنامج يُعَزِّز مصالح الأقلية الغنية، وكبار رجال الأعمال، ولا يلتفت إلى محدودي الدَّخْل.
تكشف الاحتجاجات الفرنسية عن غضبٍ شعبي، تحرّكه شرائح ومجموعات مختلفة، نتبيَّن ذلك 
ليس فقط في الاعتراض على الخيارات الاقتصادية الكبرى للرئيس الفرنسي، بل في الاعتراض أيضاً على المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية. وقد اتضح هذا الأمر جليَّا، بعد التدابير التي اتخذها ماكرون، وجاءت بعد رفضه الكلي مطالبهم، وإعلان رئيس حكومته عدم التنازل عن مقرّرات برنامجهم في الإصلاح الاقتصادي، بحكم أنه وراء نيلهم ثقة الكتلة الناخبة.
ماذا يمثل المحتجون داخل المشهد السياسي الفرنسي في مجتمع ديمقراطي؟ يوضح تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية أخيرا بعض جوانب هذا السؤال، اشتمل على النتائج الكبرى لبحث سوسيولوجي جماعي، يروم معرفة جوانب من أبعاد ظاهرة الاحتجاجات المتواصلة في فرنسا، مع محاولة إبراز أهم شعاراتها المتمثلة، في نظرهم، في تكريس نموذج في السلطة، لا علاقة له بالتطلعات التي يرغب الفرنسيون في بلوغها، الأمر الذي يكشف عن نوع من الإحباط الناتج عن وضع اقتصادي عام، ويظهر نوعاً من غياب الثقة في الوضع السياسي، حيث تفيد استطلاعات الرأي الفرنسية بأن نسبة عالية من الفرنسيين (75%) تدعم الشعارات والمواقف التي أعلنتها الحركة. وفي التقرير أيضاً أن الغضب الشعبي العارم الذي يتحرّك في مداخل المدن وقرب محطات الأداء في الطرق السيَّارة، يستوعب شرائح اجتماعية مختلفة بلا تجانس، ولا قيادة بأسماء مُعْلَنَة ومُحَدَّدة، ولا انتماء حزبي مُعْلَن. الجامع بينهم هو الصدرية الصفراء والغضب الساطع على نظام ديمقراطي، يمنح الرئيس سلطة القرار كما بيَّنت الدراسة، أن التوجهات العامة للمحتجين لا علاقة تجمعها لا بالنقابات، ولا بالأحزاب السياسية، على الرغم من أن 15% منهم ينتمون لأقصى اليسار، و5,4% لأقصى اليمين، وحوالي 42,6 % لليسار، و12,7% لليمين.
تضاعف عدد المحتجين واتسع حضورهم، فتحولوا إلى حشود من المرابطين في مداخل المدن ووسطها، والتحقت بهم قطاعاتٌ من الطبقة العاملة الفرنسية، ومن المتقاعدين وذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى المهمَّشين والعاطلين.. ومن رفض الزيادة في الضرائب على الوقود، إلى 
نقد السياسات الاقتصادية، إلى المطالبة بالمساواة في توزيع الثروة، إلى المطالبة برحيل رئيس الجمهورية، وحل الحكومة والبرلمان. تحولت الحركة من موقفٍ مباشر يتعلق بعريضةٍ يطالب أصحابها بمطلب واحد، إلى جملة من المطالب المرتبطة كما بَيَّنَّا بالبرنامج الاقتصادي للرئيس، من دون أن نغفل الإشارة إلى ما ترتَّب عن ذلك كله من مظاهر العنف المتمثلة في عمليات إتلاف بعض الممتلكات، والواضحة في الحرائق التي لحقت بعض السيارات الخاصة وسيارات رجال الأمن، إضافة إلى جرحى ومُعَنَّفِين عديدين في المواجهات مع رجال الأمن.. الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة بشأن التحولات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية، وتُمْتَحَن فيها قدرة المجتمع على ربط احتجاجاته بالضمانات التي يُفْتَرَض أن تساهم القوانين المنظمة للحياة السياسية، في ضبط وترتيب كيفيات تجاوزها.
تدعونا الاحتجاجات الفرنسية إلى مساءلة الديمقراطية ومستقبلها، فقد انتقلت الاحتجاجات الفرنسية بسرعة من باريس إلى مدن أوروبية أخرى، من صوفيا إلى لاهاي ومَاسْتْرِيخْت وبروكسيل وبرلين وبرشلونة إلخ.. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الصفراء للمدن الأوروبية الأخرى ترتبط بشعاراتٍ بعضها قريب من بعض شعارات الفرنسيين، ويرتبط بعضها الآخر بإشكالاتٍ محلية، إلا أنه لا يمكن استبعاد بعض علاقاتها بالروح المطلبية التي عَبَّر عنها الفرنسيون، وهو ما يكشف ترابُط أوجُه الأزمة الاقتصادية في أوروبا وفشل أغلب حكومات دول الاتحاد الأوروبي في ضمان الحدود الدنيا من العدالة في توزيع الثروات، إن احتجاجات بروكسيل على ميثاق الأمم المتحدة للهجرة، واحتجاجات آخرين ضد الغلاء في الصحة والتعليم.. يكشف أن صعود اليمين في بعض الدول الأوروبية، وتداعيات قضايا الهجرة، ومختلف التحولات الجارية في العالم، تضعنا أمام سؤال مستقبل الديمقراطية في عالم متغيِّر.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".