في صحبة أحمد بيضون

في صحبة أحمد بيضون

18 ديسمبر 2018
+ الخط -
لستُ أخجل من القول إنّ كل كتابٍ يصدر للباحث والكاتب والأكاديمي اللبناني، أحمد بيضون (وله قرابة عشرون مؤلَّفا في مسائل اللغة والثقافة العربيتين، وفي تاريخ لبنان ونظامه الاجتماعي السياسيّ، ناهيك عن أعمال أدبية، شعرية ونثرية، وترجمات)، هو بمثابة حدثٍ جلل بالنسبة لي، إذ تراني أبتهج بصدوره أيَّ ابتهاج، وأتهافت لاقتنائه وقراءته، ليقيني أني سأغتني بأفكارٍ ومعلوماتٍ ولغةٍ وأسلوبٍ وموضوعاتٍ وطريقة مقاربة، قلّما وجدتُها في أعمال مشابهة أخرى، أو قلّ أن حفّزت فكري ومخيلتي ومُتعتي، كما تفعل هي.
هذا ما فعله بي على سبيل المثال كتابُه "كلمن، من مفردات اللغة إلى مركّبات الثقافة"، وقد رافقني خلال كتابة روايتي "لغة السر" التي تتناول أحوال التصوّف وأمور الاشتغال على اللغة ومسائلها، فكان أن ذكرتُه في الإهداء إلى جانب أسماء أخرى، مثل ابن عربي وسواه من علماء الحروف، وما كان ذلك إلا ذريعةً لأظهر امتناني العميق لما أخذته عنه، وعنهم.
بهذا المعنى، لستُ أدري ما الذي سيفعله بي كتابُه الصادر حديثا عن دار الجديد، "في صُحبة العربية، منافذ إلى لغة وأساليب"، والذي وقّعه أخيرا في معرض الكتاب في بيروت، حيث يعود، عبر مجموعة من المقالات التي كُتبت في نحوٍ من عشر سنوات، إلى مواضيعه الأثيرة، مجموعةً في أربعة أبواب: "على سبيل التقديم"، "في اللغة"، "استراحة"، "أساليب"، ومن قبيل الختام".
فعلى سبيل التقديم، يكتب أحمد بيضون: "... دَرَسْتُ الفَلْسَفةَ فِي الجامِعةِ وَبَقِيتُ مُتَرَبِّصاً عَلى أَعْتابِ الفَلْسَفة. وَدَرَّسْتُ عِلْمَ الاجْتِماعِ عُقُوداً وَلَمْ أَحْتَسِبْ نَفْسِي فِي زُمْرةِ أَهْلِه. واشْتَغَلْتُ بِالنَقْدِ التارِيخِيِّ لِأَعْمالِ مُؤَرِّخِينا وَجَرَّبْتُ نَفْسِي فِي أَعْمالٍ تُنْسَبُ إلى التارِيخِ عادةً وَبَقِيَ طَمَعِي فِي الانْتِسابِ إلى هَذِهِ المِهْنةِ أَيْضاً مَحْفُوفاً بِالتَرَدُّدِ وَالشَكّ. إلخ، إلخ. هَذا كُلُّهُ مَعَ أَنَّ أَعْمالاً تَمُتُّ إلى هَذِهِ الصَنائِعِ (وَإلى غَيْرِها مِمّا لَمْ أذكُرْهُ) بِوَشائِجَ مُتَنَوِّعةٍ تَكاثَرَتْ بِمَرِّ الأَعْوام. وَلَكِنَّها تَكاثَرَتْ مُوَزَّعةً بَيْنَ حُقُولٍ لَعَلَّها أَفْرَطَتْ فِي التَكاثُرِ، هِيَ أَيْضاً، فَلَمْ يَنَلْ كُلٌّ مِنْها سِوى القَلِيلِ نِسْبِيّاً مِن العَناوِين".
وهذا "القليل" الذي يشير إليه أحمد بيضون تواضعاً، إن صحّ اعتباره قليلا، يتسّم بسعةٍ وعمقٍ ودسمٍ وثراءٍ وفطنةٍ وطرفٍ ومتانة وحسن سبك، ناهيك عن لغة عربية تفيض دقة وإمتاعا، إذ تذوب تحت اللسان كما تذوب قطع الحلوى الشهية متقنة الصنع، فلا هي مفرطة الحلاوة أو السمن، ولا هي جافّة فقيرة تفتقد الطراوة وحسن المذاق. وذاك الذي لا يُدرج نفسَه، تشكيكا كما يقول، في أيٍّ من الصنائع التي خاضها، وله تجارب مثمرة فيها، نصنّفه، نحن قرّاؤه ومُريدوه، متخصّصا فيها جميعا، لا بل عليما مُلِمّا يطرح في كلّ مرة الجوهريّ، ويناقش الأساسيّ والمركزيّ، فاتحا بذلك قنواتٍ جديدةً للبحث والنقاش والتقصي والاستزادة، سواء في مجال اللسانيات العامة، أو في مسألة العربية والحضارة العصرية، أو في ما يسمّيها "المبارزة المتمادية ما بين الفصحى والعاميات"، أو في تاريخ لبنان وحربه واجتماعه، أو في الربيع العربي الذي تطرّق إليه في كتابه "الربيع الفائت، في محنة الأوطان العربية أصولا وفصولا (2016)...
أيضا، لأحمد بيضون الذي كتب الشعر، وخاض تجربة الكتابة السينمائية مع المخرج برهان علوية في فيلم "بيروت اللقاء"، وتناول بأطرف وأجمل ما يكون أحوال المهاجرين في كتابه "بنت جبيل – ميتشيغان"، مساهماتٌ في الكتابة الفيسبوكية التي جمعها في "دفتر الفسبكة، نتف من سيرة البال والخاطر" ( 2013)، حيث لم تفقد عربيّته شيئا من طزاجتها أو من حسن سباكتها.
قد يكون ما يجمع بين أعمال أحمد بيضون المتنوّعة، مواضيع وهموما، هو انتسابها جميعا إلى عالم الأدب، كما يحبّ هو أن يرى إليها، وهذا تصنيفٌ في محلّه يُثري الأدبَ العربيَّ، بقدر ما يثرى الأدبُ العربيُّ به ويرقى.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"