المليشيات المسلحة تستلم السلطة في العراق

المليشيات المسلحة تستلم السلطة في العراق

17 ديسمبر 2018
+ الخط -
ما إن انتهينا من الكذبة التي صورت رئيس الحكومة العراقية المكلف، عادل عبد المهدي، بالرجل القوي والشجاع، الذي يرفض الطائفية والحزبية، ويصرّ على تشكيل حكومته من المستقلين ذوي الخبرة والكفاءات، وبعيدة عن الإملاءات الخارجية، حتى وجدنا أنفسنا أمام كذبةٍ أخرى تحدثت عن الجنة التي سيجعلها عبد المهدي تحت أقدام العراقيين، وصولا إلى أم الأكاذيب، وهي الانتقال بالعراق إلى مصاف الدول المتقدمة في العالم. ناهيك عن كذبة الترشيح الإلكتروني لشغل المناصب الوزارية، والقائمة بهذه الأكاذيب طويلة جدا.
ولكن الرجل نسي، على ما يبدو، مقولة "حبل الكذب قصير"، فأمام قوة المليشيات المسلحة وسطوتها، ظهرت شخصية عبد المهدي على حقيقتها، وتبخرت وعوده الوردية، واختفت ترشيحاته الإلكترونية. حيث ترك لهذه المليشيات الطائفية زمام القيادة، وأولها حرية ترشيح وزراء حكومته، واختار لنفسه مهنة ساعي البريد لنقل أسماء المرشحين من البرلمان وإليه للمصادقة عليها. وإذا سولت له نفسه الاعتراض، أو استخدام حقه في قبول هذا المرشح أو رفض ذاك، أو تبديله بمرشح آخر، سرعان ما يلقى التوبيخ حينا والتهديد بسحب الثقة منه حينا آخر. ناهيك عن وقوفه عاجزا أمام فضيحة بيع هذه المليشيات وشرائها، وهي التي وصفها صديقه الحميم، رئيس الحكومة الأسبق، إياد علاوي، ب"البورصة المفتوحة التي يفوز بها من يدفع أكثر"، الأمر الذي جعل علاوي يفرض على نفسه الإقامة الجبرية بين مكتبه وبيته، بانتظار من يجود عليه بالفرج.

لو اقتصر ذلك على هذا الحد لهان الأمر، فتشكيل الحكومات في العراق يمر بمثل هذه المهازل وينتهي الأعداء، في نهاية المطاف، إخوة وأحبة، لكن ما حدث ويحدث يمثل المرحلة الأخيرة من مخطط تدمير العراق، وهو تسليم السلطة بيد المليشيات المسلحة لتحكم العراق على طريقة المافيات الإيطالية التي تحكمها العوائل الكبيرة، وتدير شؤون العمليات الإجرامية في العالم، بل بدأت هذه المليشيات فعلا باستلام السلطة، ووضع عادل عبد المهدي وحكومته فوق الرفوف العالية، بدل وضعه في السجن، ومن ثم محاكمته وإعدامه على طريقة الانقلابات العسكرية والبيان رقم واحد. ليس هذا رأيا أو استنتاجا من نسيج خيال كاتب هذه السطور، وإنما يستند إلى وقائع تظهر تباعا بالصوت والصورة، حيث بدأت هذه المليشيات تمهد فعلا للإعلان عن سلطتها، فهي ضربت عرض الحائط بأبسط الأعراف السياسية والديمقراطية التي دوّخوا رؤوسنا بها، واستهانت بالقوانين التي تحكم دولتهم والصلاحيات التي ثبتها دستورهم، ثم قدمت أسماء قادة الانقلاب عبر التصريحات إلى الشعب العراقي.
كان أولهم زعيم مليشيا منظمة بدر، هادي العامري، الذي تعمد توجيه إهانة علنية لعبد المهدي، بذريعة تردّده بتمرير مرشحه لوزارة الداخلية فالح الفياض، حيث قال "إن عبد المهدي ما كان له نيل هذا المنصب إلا بعد موافقته مقابل التزامه بكل طلباتنا". وأضاف "مثلما أتينا به نخرجه متى شئنا". والثاني زعيم مليشيا سرايا السلام، مقتدى الصدر، الذي وجه توبيخا إلى عبد المهدي للسبب نفسه، وهدده بالنزول إلى الشارع لسحب الثقة منه، إذا خضع لضغوط العامري، ووافق على الفياض لوزارة الداخلية. أما الثالث، نوري المالكي، فصرح "دعونا نكون واقعيين، ولا نخدع أنفسنا حيث ليس بإمكان رئيس الوزراء رفض طلباتنا". ودعم هذا الموقف بتصريح شديد اللهجة، قال فيه إنه "لا تنازل عن ترشيح فالح الفياض لحقيبة الداخلية في حكومة عبد المهدي". وأكد أنه لن يسمح باستبدال الفياض بأي مرشح آخر، وأن كتلتهم قرّرت عدم تغيير أي من المرشحين للحقائب الوزارية الثماني المتبقية، في حين قال الرابع، زعيم مليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، لعبد المهدي، "وزارة الثقافة من حصتنا، ولن نتنازل عنها وليس بإمكان كائن من كان حرماننا منها". أما خامسهم، أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، فقد قدم النصيحة إلى عبد المهدي باللهجة العراقية "أن يصير عاقل أحسن".
والمصيبة أن ما يجري ليس، كما يتخيل بعضهم، بعيدا عن عيون الأميركان، أو أنه انتصار الملالي على حسابهم، وإنما العكس صحيح تماما. فما يحدث يمثل بالنسبة لأميركا وملالي طهران، كما يقول العراقيون، "عز الطلب"، كونه ينسجم مع نظرية الفوضى الخلاقة التي تصب في خدمة مخطط تدمير العراق، دولة ومجتمعا. ولا يغير من هذه الحقيقة وجود خلافاتٍ بين البلدين، فهذه لا وجود لها داخل العراق. بمعنى آخر، إذا اختلفت أميركا وإيران على كل شيء في العالم، فإنهما تتفقان بالكامل على تدمير العراق، فتحقيق هذا الهدف الغادر ضد العراق وشعبه مطلب إيراني أميركي صهيوني.
ماذا يعني ذلك كله بالنسبة لنا، نحن العراقيين؟ وما هو الحل الأوحد لإنقاذ العراق من هذه الوجوه الكالحة؟
إنه يعني أن العملية السياسية كذبة كبرى، فهي قائمة على المحاصصة الطائفية والمليشيات المسلحة، وليس كما يسمونها شراكة وطنية. والانتخابات ليست سوى عملية تزوير ومدخل للفاسدين، وليست طريقا لبناء نظام ديمقراطي في العراق، والبرلمان وسيلة لشرعنة الفساد والفاسدين، وليس لتشريع القوانين التي تخدم البلاد والعباد، والقضاء أداة لمنح البراءة للقتلة والمجرمين، وليس لمحاسبتهم وإنزال العقوبة بحقهم، وأن الدستور وضع من أجل حماية السلطات الحاكمة، وليس من أجل تنظيم عمل الدولة ومؤسساتها بما يخدم مصلحة العراق وشعبه، وأن المرجعيات الدينية أداة لمباركة كل هذا الخراب والتدمير، وليست أداة لإصلاح المجتمع وتشجيعه على التمسك بالقيم والأخلاق ونبذ الرذيلة، وذلك كله قد جرى تنظيمه تمهيدا لليوم الموعود الذي اقترب فعلا، وهو تسليم العراق ليد المليشيات والعصابات الإجرامية.

ويعني، في المقابل، أن المعارضة داخل البرلمان، سواء كانت ممثلة بمقتدى الصدر وتياره، أو تحالف سائرون أو غيرهم من القادمين الجدد، خديعة وضيعة ونصب واحتيال، فقد أثبتت الوقائع أن مقتدى الصدر و"سائرون" وأتباعهم هم لا يقلون حرصا من غيرهم على حماية العملية السياسية من السقوط، بسبب ما جنوه من شهرة وسلطة وأموال.
قد يعتقد بعضهم أن مثل هذه الآراء تنطوي على موقف كيدي من العملية السياسية، ومن متزعميها، أو في أحسن الأحوال تنطوي على مبالغة كبيرة. إذا ليس من المستبعد لجوء هذه الحكومة إلى التغيير والإصلاح والاستجابة لمطالب العراقيين لامتصاص الاستياء الشعبي العام، من جهة، وحماية نفسها من السقوط من جهة أخرى. تبدو هذه المرافعة من الناحية النظرية منطقية، إلا أنها ضعيفة جدا أمام الوقائع العنيدة التي تنفي قطعا حدوث مثل هذا التغيير، فهذه الحكومة والحكومات التي سبقتها لا تمتلك حرية الاختيار، وإنما هي أداة بيد المحتل الأميركي وتابعه الإيراني الذي ليس من مصلحته حدوث مثل هذا التغيير.
بمعنى آخر أكثر وضوحا، إذا حدث مثل هذا التغيير الذي يصب في خدمة العراق والعراقيين، فإن أميركا خصوصا لن تقبل به أو تستسلم له وتأخذ عصاها وترحل سلميا، وإنما ستقاتل من أجل منع هذا التغيير، فاستمرار الفساد والفاسدين وتجويع الشعب العراقي وإذلاله وتحطيم إرادته وصموده، هو الأساس الذي تستند عليه للحفاظ على غنيمتها، وخير دليل على ذلك تعزيز أميركا، في الآونة الأخيرة، قواتها وقواعدها العسكرية بأكثر من عشرة آلاف جندي، تمركزوا في قواعد ثابتة في مناطق شمال القائم ومنطقة قطارات الفوسفات وفي معسكر عين الأسد في البغدادي ومعكسر الخسفة قرب سد حديثة وكذلك في هيت والحبانية. ناهيك عن وجود خمس قواعد عسكرية خارج الأنبار: التاجي شمال بغداد وفيكتوري في قلب مطار العاصمة والقيارة جنوب الموصل وبلد الجوية في صلاح الدين، وعملاقة في أربيل. في حين يسعى ملالي طهران إلى الهيمنة أكثر فأكثر على مفاصل الدولة واقتصادها وسرقة ثرواتها. وبالتالي، لا طريق للخلاص من المحنة، قبل الخلاص من هذه العملية السياسية، ولا طريق لتحقيق ذلك سوى التوجه إلى طريق الانتفاضات الشعبية واستخدام كل الإمكانات المتاحة، بما فيها حق الدفاع عن النفس بالوسائل المسلحة، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة تأخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا، وأية مراهنة أخرى لتحقيق ذلك الهدف المشروع فاشلة قطعا.

دلالات

449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي