في "تسعين" تشومسكي

في "تسعين" تشومسكي

15 ديسمبر 2018

تشومسكي: الديمقراطية يمكن أن تفقد جوهرها (19/3/2013/Getty)

+ الخط -
أمور كثيرة يمكن أن تُذكر عن مسيرة عالم اللّسانيّات والمفكّر السّياسي، نعوم تشومسكي، في عيد ميلاده التّسعين المحتفى به هذه الأيّام؛ فالرّجل، عُدّ منذ عقود، إحدى الشّخصيّات العلميّة والفكريّة الأكثر تأثيرا في عالمها. وما يشدّ الانتباه حقّا في هذه الشخصية الاستثنائيّة أنّها استطاعت الجمع، باقتدار نادر، بين الاختصاص العلمي اللّساني الدّقيق والنّزعة الفكريّة النّضاليّة ذات البوصلة الإنسانيّة المميّزة المتابعة ببصيرة الشّأن العام. ويعرف كلّ متخصّص في علمٍ ما مقدار صعوبة هذا النّوع من الجمع وتعذّره.
ليست هذه المقالة عن تشومسكي اللساني صاحب الاختصاص، والمنسوبة إليه نظريّة النّحو التّوليدي. وإنما عن تشومسكي الثاني، المثَقّف المناضل، صاحب المواقف القويّة في مواجهة السياسة الأميركيّة، وصاحب نصوص كثيرة تكشف ما في الدّيمقراطيّة الزّائفة من أدوات التلاعب بالعقول، وبرمجة الأذهان على نحو يحوّل النَّاس تقريبا إلى قطعانٍ تفكّر بالضبط ضمن الحدود المرسومة لها، وتفعل بالتحديد ما بُرمجت لأجله عبر المدرسة والإعلام، باعتبارهما أكبر أدوات التّوجيه والضّبط والأدلجة.
ربط تشومسكي دائما الفكر الحر بالتّمرّد. وكانت مواقفه ونصوصه بمثابة أمثلةٍ تطبيقيّةٍ عن هذا النّوع من الفكر. ولمن يتابع منشورات الرّجل الغزيرة يتذكّر، من بين نصوصه، نصّين هما منطلق هذه السطور عنه، نص عن البروباغندا في الديمقراطيّة بعنوان "رقابة الميديا"، وآخر عن أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، بعنوان "هل كان هناك خيار؟". ويأتي اختيارهما، لأنّ الأول تنظيريّ، والثّاني بمثابة تنزيل ذلك التّنظير على حادثةٍ تداعت عنها آثار، ما زالت تتعاقب إلى يوم النّاس هذا.

يمكن القول إن تشومسكي، على خطى مفكّرين كبار قبله، عرف مبكّرا أنّ وسائط الإعلام ليست مجرّد وسائل نقل معلومة محايدة، وأنّ الدّيمقراطيّة يمكن أن تفقد جوهرها الذي يجعل إرادة الشّعب هي الإرادة الأقوى فيها لتنزلق إلى شكلٍ ناعم من أشكال الاستبداد، حين تسيطر على مقاليد المال والوعي طبقة محدودة، تسعى، عبر وسائل صناعة العقول والأمزجة إلى التّحكّم في الأفعال وردود الأفعال. وبمثل ما تعتبر العصا الغليظة وسيلة التّوتاليتاريّة إلى سحق كلّ معارض، اعتبر تشومسكي البروباغندا هي العصا الأخرى، لكنّها لا تهوي على الرّؤوس، بل تصوغها، وتحدّد لها ما ينبغي فعله وما ينبغي تركه، وما يُقال وما لا يُقال.
وكان تشومسكي، وهو يدرس جذور البروباغندا في الدّيمقراطيّة الأميركيّة عاد بها إلى عهد الرّئيس وودرو ويلسون إبّان الحرب العالميّة الأولى. وبيّن كيف أنّ مزاجا عاما مسالما يعتبر الحرب الأولى شأنا أوروبيا خالصا، انقلب، بخطّةٍ مسبقةٍ، من دوائر القرار الضّيّقة، مصحوبة ببروباغندا هائلة إلى مزاج هستيري عدواني، يدعو إلى قتل كلّ ما هو ألماني. وكانت تلك التجربة نموذجا أوَّل، تكرّر بعد ذلك في عموم منعطفات السّياسة الأميركيّة داخليًّا وخارجيًّا.
هذا ما يُفسّر ما يمكن أن يلاحظه المتابع لمسيرة تشومسكي من مواقف جذريّة، لا تخلو من حدّة مقصودة، تكشف أنّ هذا المفكّر، في كلّ منعطف سياسيّ مهم، شاء أن يظهر تمايزه الكامل عن البروباغندا الرّسميّة، ولو بصدم المزاج العام الواقع تحت تأثيرها. وأحد أفضل الأمثلة عن هذا التّمايز الموقف من أحداث "11 سبتمبر"، وما تلاها من تهيئة الرّأي العام، عبر الأكاذيب والخدع، لغزو أفغانستان والعراق.
معلوم أنّ تلك الأحداث أسهمت في ظهور تسونامي حقيقي من العداء والعنصريّة إزاء كل ما هو إسلامي. وازدهرت لغة صدام الحضارات، وعبارة بوش الابن البائسة "من لم يكن معنا فهو ضدّنا". وأصبح الإسلام، بفعل بروباغندا شاملة، أسهمت فيها الوسائط الإعلاميّة والشّخصيّات الفكريّة اليمينيّة المحافظة، خصم الدّيمقراطيّة الغربيّة، الجديد الحالّ محلّ الخصم الشّيوعي القديم.
كتب تشومسكي، في تلك الفترة، مقالات كثيرة، واجه فيها هذا البؤس الذي فضح الديمقراطيّة المرتهنة إلى مراكز قوى توجّه الرّأي العام خارجيا في اتّجاه فتح جبهات حربيّة؛ وداخليا في اتّجاه الالتفاف على جانبٍ من الحريات الفردية، بتعلّة مقتضيات حفظ الأمن إزاء إرهاب راصد في كلّ زاوية. وفِي واحدةٍ من مقارناته المذهلة، قارن "11 سبتمبر" بالحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 1973، وهو التّاريخ الذي كان لأميركا فيه دور مباشر في الانقلاب على تجربة ديمقراطيّة، هي تجربة حكم الرّئيس اليساري، سلفادور الليندي، في تشيلي. وقد أعقب الانقلاب الذي قاده حليف الولايات المتحدة، أوغستو بينوشيه، عن سنوات من القمع الدموي أُزهقت فيه أرواح كثيرة.
تساءل تشومسكي عن الفرق بين الحادثين، ليشير إلى أهمية الوسيط الإعلامي، فموت الآلاف في يوم واحد يتمّ تصويره درجة عالية من درجات الإرهاب، وهو فعلا كذلك. أمّا موت الآلاف على مدى سنوات، خارج التغطية الإعلامية فيتمّ تجاوزه كما لو كان لا صلة له بالإرهاب. والحال أنّه إرهاب دولةٍ موصوف.

كان لتشومسكي دائما هذا النّوع نفسه من المواقف التي تعرف كيف تسبح ضد تيّارٍ جارفٍ من الأفكار المسبقة، والانفعالات المعدّة بإحكام شيطاني، داخل غرف التوجيه الإعلامي والإيديولوجي. وقد كان مرارا عرضةً لنقد شديد من الذين كان بول نيزان سمَّاهم "كلاب الحراسة"، في إشارة إلى موقعهم الموالي والمدافع بشراسة عن السلطة السائدة، وعن عدَّتها الفكرية والثقافية. وقد يبدو للقارئ العربي، للوهلة الأولى، أنّ مواقف قويّة من الإرهاب، أو غزو العراق، أو الحقّ الفلسطيني، كمواقف نعوم تشومسكي، أو نورمن فنكلشتاين، أو روجيه غارودي قديما، هي، في النّهاية، على قيمتها، المواقف العاديّة التي ينبغي أن يقفها من أراد أن يكون إلى جانب الحق. والأمر صحيح، لكنّ القليل فقط يعرفون صعوبة الوصول إلى معرفة الحق، وإلى معرفة كيفية الوقوف معه في سياق سيطرة الميديا على الأدمغة، وتعاظم قدرتها بأثر من الطّفرات التّقنيّة الاستثنائيّة على التّوجيه والتّضليل. وعندما يُضاف إلى ذلك ما يعترض المثقّف المتمرّد على سلطتي الدّولة والمزاج العام من صنوف التّضييق والهرسلة والتّهديد، ندرك تماما الأثمان التي يدفعها مفكّرون إنسانيّون من طينة تشومسكي، في سبيل مواجهة السّياسات الظّالمة، والانتصار لقضايا الحق بغضّ النّظر عن عقائد أصحابها وأعراقهم وألوانهم.
يروي تشومسكي، في واحد من حواراته أخيرا، حادثة طريفة، عاشها منذ سنوات، لمّا كان في السويد. فقد لاحظ، وهو يستعمل في التّنقّل سيّارات التّاكسي معاملة لطيفة جدّا من السّوّاق إلى حدّ أثار ريبته. ولمّا سأل سائقا عن ذلك، أراه قميصا عليه صورة تشومسكي، قائلا إنّ كلّ سائق تاكسي في السّويد يمتلك واحدا منه. ومع الصّورة جملة للمفكّر الأميركيّ هي ترجمة سويديّة لإجابة له لمّاحة حينما سُئل مرّة: ماذا يحدث للنّاس ذوي العقول المستقلّة؟ قال: إنّهم يصبحون سوّاقي تاكسي.

دلالات

8F943429-E29C-4239-9DC8-77B5CA8029DA
8F943429-E29C-4239-9DC8-77B5CA8029DA
الأزهر الصّقري
الأزهر الصّقري