حراك أردني يُسخّن الأجواء الباردة

حراك أردني يُسخّن الأجواء الباردة

15 ديسمبر 2018

متظاهرون في عمّان ضد قانون الضريبة (13/12/2018/فرانس برس)

+ الخط -
يعرف عالمنا في العام 2018، الموشك على الانصراف، احتجاجاتٍ للشارع تفرض إيقاعها المتفاوت على المزاج السياسي، كما على تقارير الأنباء ومنصّات التواصل، من باريس، حيث احتجاجات السترات الصفراء هي الأكثر صخبا في عقر دار الغرب المتقدّم، في الدولة الصناعية المتقدمة وعاصمة السياحة. وقد وجدت هذه الموجة أصداء لها في بلجيكا وهولندا، فيما شهدت مدن إيران، على مدار العام تقريبا، وما انفكّت تشهد موجاتٍ احتجاجيةً تتفنن السلطات في قمعها، وفي التسلل إلى صفوفها وتغييب ناشطيها وراء الشمس. وإلى العراق، حيث تشهد مدينة البصرة في الجنوب احتجاجات متقطعة، وتنال قمعا منظما، تتشارك فيه المليشيات وقوى إيران النافذة في بلد الرشيد، إلى موجاتٍ من الاحتجاجات المتفرّقة تشهدها تونس، ساخطة على الوضع الاقتصادي، وعلى مناوشات أهل الحكم في ما بينهم، إلى ما يتيسر من احتجاجاتٍ في سورية التي تنوء بما لا حصر لهم من مشرّدين ونازحين في وطنهم، ومن ضحايا ومصابين ومعتقلين بلا عدد، إلى الأردن الذي تجدّدت فيه الاحتجاجات منذ أواخر الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، والتي عرفت بحراك الدوار الرابع، والمقصود موقع مقر مجلس الوزراء على مبعدة كيلومترات قليلة من وسط العاصمة عمّان.

وقد جاءت الموجة الجديدة من احتجاجات الأردنيين امتدادا لموجةٍ سابقةٍ، اندلعت في مايو/ أيار الماضي، وأدت إلى إقالة حكومة هاني الملقي، على خلفية الموقف من قانون متعسّف لضريبة الدخل، ولم تشكل النسخة الجديدة من هذه الاحتجاجات رجع صدى، أو تفاعلاً مع موجات مماثلة عربية أو في العالم. ولا شك أن هذه الموجة تبرهن على أن بذور الربيع العربي ما زالت حية في تربة المجتمع، وتعكس القناعة العامة بأن من حق جميع فئات المجتمع، وخصوصا الأكثر ضررا من السياسات المتبعة، أن تمسك مصيرها بأيديها وتجهر بمواقفها الناقدة علنا وفي الشارع. وتسترعي الانتباه في الموجة الأردنية المتجددة عدة أمور، منها:
أولاً: شهدت هذه الموجة مشاركةً واسعة لأبناء المحافظات الذين آثروا القدوم بأنفسهم إلى العاصمة ومخاطبة الحكومة بصورة مباشرة، بدلاً من رفع الصوت في مناطقهم، ولأسبابٍ منها أن تركيز الأضواء يتم عادة على حراك العاصمة.
ثانياً: مع استمرار حالة الود والاحترام بين المحتجين والقوى الأمنية (الشرطة والدرك)، امتدادا للموجة الكبيرة السابقة، إلا أن التناغم بينهما لم يكن كبيرا هذه المرة، وذلك لأن جملة الموقف افتقدت للوضوح، مع جنوح السلطات، منذ البداية، إلى رفض هذه الموجة، ولأن الوضع تغير بعض الشيء مع حكومة عمر الرزاز، ولأنه "يجب" إعطاؤها فرصة.
ثالثاً: نأت النقابات بنفسها عن المشاركة في هذه الموجة، وذلك بعد جملة حواراتٍ مع الحكومة بشأن قانون الضريبة، ومجمل الوضع الاقتصادي. وقد تم وضع قانون جديد للضريبة أخذ مساره الدستوري في مجلسي النواب والأعيان. ويلقى هذا القانون درجة من القبول، وقدرا من الرفض لدى بعض القطاعات. وقد لوحظ أن الأنباء عن قرارات ضريبية لاحقة تتعلق بالسوق المالي قد أدت إلى تراجع حاد في هذا السوق وخسائر هائلة. وانطلقت معه تحذيرات خبراء اقتصاديين بأن السوق على وشك الانهيار والإغلاق، لكن هذا الأمر لم ينعكس على مزاج المحتجين. وقد تدخلت الحكومة لاحقا، وأصدرت تعليماتٍ تحصر استيفاء الضريبة على الاتجار بالأسهم، وليس على الأرباح التي يحصل عليها المساهمون. وكذلك هو الحال مع الأحزاب التي لم تشارك في هذه الموجة، وأبدى بعضها تعاطفا من بُعد معها.
رابعاً: خرج المحتجون، هذه المرة، بغير صفة تمثيلية: نقابية أو حزبية، ولكن بصفاتهم الفردية الاجتماعية، مرددين كلمة معناش (ليس لدينا). وتفاوتت مطالبهم بين رفض قانون الجرائم الإلكترونية، والمطالبة بتخفيض أسعار المحروقات، بما يتماشى مع الأسعار العالمية السائدة للنفط، والدعوة إلى محاكمة الفاسدين، وإصدار عفو عام، وإطلاق سراح عدد من معتقلي الرأي (بعض الناشطين على منصات التواصل، وعددهم محدود). وبصفة المحتجين ممثلين لأجسام اجتماعية، بعيدا عن أي تأطير، فهم يُعيدون، بوتيرةٍ أضعف وبأعداد أقل، ما اتسمت به موجة الربيع العربي من سيولة وعفويةٍ، لا تنقصها مع ذلك كثافة التمثيل الاجتماعي للشرائح الأكثر تضرّراً من الطبقة الوسطى، ثم للشرائح الفقيرة من عاملين ومتعطلين.
خامساً: لوحظ أن سقف الهتافات التزم، هذه المرة، بنقد أداء الحكومات وسياساتها، ولم يتعرّض للحكم.

سادساً: ساهمت برودة الطقس في ليالي ديسمبر/ كانون الأول الجاري (نحو 8 درجات مئوية) في التزام غالبية الناس بيوتهم. ومع ذلك، خرج مئات من الشبان والسيدات متحدّين الطقس البارد. وحين سئل أحد الشبان المحتجين عن مغزى خروجه، على الرغم من الطقس القارس، أجاب: "خرجت لأن بيوتنا ليست أكثر دفئاً من الشارع"، في إشارة ذكية إلى الكلفة العالية لوسائل التدفئة، بما فيها الكاز.
وقد استقبل رئيس الحكومة ناشطين في الحراك في مقر رئاسة الوزراء، وسرعان ما انتشر "يوتيوب" لناشطٍ عمد إلى مخاطبة رئيس الحكومة باسمه المجرّد بغير لقب رسمي، قائلا: يا عمر الرزاز.. وهو ما يعكس مزاجا شعبيا حانقا (يقفز عن التقيد الشكلي باللياقات) على سياساتٍ متراكمة، أدّت إلى زيادة الدين العام، وارتفاع الأسعار، والتذمر من الفساد، حيث لا تصل أيدي العدالة إلى كبار الفاسدين، كما قال الشاب (باستثناء واحد منهم خرج في عفو عام في عهد الملك الحسين الراحل، على حد قول الشاب).
وإذ يبدو حراك الشتاء محدوداً من حيث حجم المشاركين، والغطاء السياسي الذي تمتع به، واقتصاره على مساء كل خميس، إلا أنه بث رسالة مفادها بأن نبض الشارع يجب أن يصل بأعلى صوت إلى الحكومة وأهل الحكم مجتمعين، وسوف يظل يصل بأعلى صوت وأوضحه، إلى أن يلمس المواطن تغييراً يمسّ وضعه المعيشي.
وإذ يشكل وجود عمر الرزاز رئيسا للحكومة صمام أمان للحكم وللشارع معا في هذه المرحلة، إلا أن المتابعة الشعبية لأداء الحكومة تظل مستمرة، وخصوصا في المجال الاقتصادي الذي يمسّ مستوى المعيشة، وفي مجال الحريات العامة. وقد لوحظ أن الشبان الذين استقبلهم الرزاز قد دعوا مضيفهم إلى أن يتمكّن من مبدأ الولاية العامة للحكومة، في إشارة قوية إلى تعدّد مصادر السلطات الفعلية، وبعضها قديم العهد وموروث، ويشكل جزءا من الواقع السياسي الصلب.