مشروع تنويري عربي في زمن بائس

مشروع تنويري عربي في زمن بائس

14 ديسمبر 2018

(منير الشعراني)

+ الخط -
لا تترك متابعة الشأن العام في منطقتنا للمرء مساحةً للتفاؤل أو البهجة. في حين يصبح تمثّل مشروع عربي تنويري ضرباً من الرومانسية والخيال، ومن أشغال الترف الفكري التي لا تليق بمآسينا وأزماتنا التي تمتد بطول العالم العربي وعرضه. بيد أن هذه المآسي والأزمات لم تمنع قيام مبادرات ومشاريع معرفية عربية، أقل ما يمكن أن توصف به هو النهضوية والتنوير. ففي الدوحة، تم قبل أيام، تدشين أول معجم تاريخي للغة العربية، وهو مشروع معرفي جبّار، كان بمثابة حلم يراود آباء اللغة العربية وشيوخها ونخبها على مدار المائتي عام الماضية على أقل تقدير. وقد كتب كثيرون عن هذا المشروع التاريخي، وهو إنجاز يستحقّ الاحتفاء والثناء، ولكنه لا يكتمل من دون وضعه ضمن سياقه الأكبر، المرتبط بمشروع تنويري عربي صاعد، بدأ قبل حوالي عقد، فمعجم الدوحة التاريخي هو الحلقة الجديدة (وليست الأخيرة) في مشروع نهضوي حقيقي وجاد، يتبناه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره ويشرف عليه المفكر العربي عزمي بشارة، وهو المشروع الذي تسبق أفعاله أقواله، وتبدو آثاره الفكرية والمعرفية شاهدةً على ما أنجزه خلال أعوام قليلة، فالمركز الذي انطلق نشاطه عام 2010، وقبل شهور قليلة فقط من بدء موجة الربيع العربي، يمثل بؤرة معرفية ومؤسساتية، تستهدف إعادة بناء الوعي العربي، من خلال إنتاج بحثي وعلمي رصين، بعيداً عن الدعاية والادعاء والأدلجة.
وبالإضافة إلى إسهامه المعرفي الواسع على مدار العقد الماضي (سواء كان في شكل إصدارات علمية، كالكتب والدراسات والمجلات المحكّمة والتحليلات، أو مؤتمرات وندوات ولقاءات علمية)، قاد المركز العربي عمليةً واعيةً لبناء مؤسسات علمية وبحثية وتعليمية، لا تكتفي بإعادة تدوير المعرفة، وإنما تسعي إلى المساهمة بجدية في إنتاجها ونشرها. ومن أهم المشاريع والمؤسسات التي أنشأها المركز العربي، خلال الأعوام القليلة الماضية، معهد الدوحة للدراسات العليا ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالنسبة للمشروع الأول، والذي أفخر بأن أكون من بين أوائل المنتمين إليه، والمساهمين في بنائه أكاديمياً ومعرفياً، فإنه يعد وبحق أول مشروع أكاديمي عربي، يجمع نخبة من أبرز الأساتذة والأكاديميين العرب الذين تلقوا تأهيلاً وتعليماً أكاديمياً مرموقاً، وعملوا في كبريات الجامعات العربية والغربية، جاؤوا من مختلف الأقطار العربية، كي يضعوا خبراتهم ومعارفهم في خدمة جيل جديد من الباحثين العرب، يُطمح أن يساهم في إنتاج معرفة عربية أصيلة.
وبالنسبة للمشروع الثاني، وهو معجم الدوحة التاريخي، فهو يؤرّخ لمرحلة جديدة في الإسهام المعرفي العربي، ليس فقط كونه المشروع الأول من نوعه في العالم العربي وخارجه، وإنما أيضا كونه علامة بارزة على أن في وسع باحثين عرب أن يساهموا في بناء وإنتاج معرفة عالمية رصينة وواثقة وبلغتهم الأصلية. لا يزال المعجم في بداياته، حيث غطى خلال مرحلته الأولى المائتي سنة الأولى من الهجرة من تطور اللغة العربية وألفاظها. وسوف يتم استكمال بقية المراحل حتى الوصول إلى الوقت الراهن من تطور الألفاظ والمصطلحات العربية. وهو بحق "مشروع أمة" كما تم وصفه في حفل انطلاق المعجم الذي جرى في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
ولعل السرّ في نجاح المشروعات والمؤسسات البحثية التي يرعاها المركز العربي لا يكمن فقط في جديتها ووضوح رؤيتها، وإنما أيضا كونها تضع الإنسان العربي في قلب اهتماماتها، باعتباره الهدف من أية نهضة عربية حقيقية. وإذا كان من شيءٍ تخبرنا به هذه المشروعات فهو أن في مقدورنا، نحن العرب، أن نقدم إسهاماً حقيقياً للمعرفة العالمية، إذا توفرت الهمّة والإرادة، فرّب همّةٍ أحيْت أمة.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".