تونس.. سترات حمراء وإضراب عام

تونس.. سترات حمراء وإضراب عام

14 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم تعد المظاهرات، ولا الاحتجاجات عملا عفويا في تونس ما بعد الثورة، فكل ما يجري على الأرض، يخضع لحسابات، ويستجيب لأوامر وإملاءات، ويستهدف تحقيق غايات تختلف بحسب الأطراف التي تنفق على هذه التحركات.
شهدت تونس، في سنة 2013، اعتصاما وحشدا للجمهور من أطرافٍ سياسية ترفع يافطات شتى، فالتحالف الذي ظهر في تلك الأيام، وضم بقايا النظام السابق المتحلقين حول الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس، بالإضافة إلى مجموعات اليسار المنتمين إلى الجبهة الشعبية، ولوبيات إعلامية واقتصادية، نظم اعتصاما قبالة مقر مجلس النواب، عُرف تحت اسم "اعتصام  باردو"، وانتهت التجاذبات بين حكومة الترويكا وهذه القوى المعتصمة بتشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ، نظمت انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014. وعلى الرغم من فوز "نداء تونس" في الانتخابات، واحتلاله الرئاسات الثلاث، فإن ما جرى لاحقا كان خلافا لتقديرات معتصمي باردو، حيث ظهر إلى العلن الاتفاق الخفي الذي كان قائما بين الرئيس الباجي السبسي وزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، وأفضى إلى تحالف حكومي جديد.
يحاول السبسي اليوم، من جديد، تجميع فرقاء الماضي، وتحت الشعار نفسه، وهو محاصرة حزب النهضة، وقطع الطريق عليه، لعبة تبدو متكرّرة. ويتذكّر الشارع التونسي تفاصيلها، غير أن الجديد، هذه المرة، هو ما شهده المشهد السياسي من تبدل للمواقع وتغير للتحالفات. فالأزمة الحاصلة اليوم تكمن في ما جرى في حزب نداء تونس، وظهور زعامة جديدة، ممثلة في رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، الذي استطاع أن يستميل الكتلة الأساسية لنواب هذا الحزب، ووراثة الحلف القائم مع "النهضة"، ما أفقد الرئيس السبسي كل أوراقه السلطوية، ودفعه إلى المرور إلى خطة أخرى من أجل انتزاع السلطة لولده هذه المرة، ومن خلال حسابات جديدة.

بدأت خطة الرئيس، والشق الذي يواليه من حزب نداء تونس، من خلال الدفع إلى أزمة حكم، بعد أن قرّر التحول إلى خصم سياسي، لحزب كان حليفا له إلى وقت قريب، فأصبح، في نظره، متهما بتشكيل تنظيم سرّي، يهدد السلم الأهلي. والغريب أن رئيس الدولة الذي يشرف دوريا على اجتماعات مجلس الأمن القومي لم يتحدث أبدا عن هذا التنظيم السري طوال السنوات الماضية، حين كان متحالفا مع حزب النهضة، وهو ما يطرح السؤال: هل كان متواطئا بالصمت مع طرف سياسي غير بريء، أم أنه اليوم بصدد الانسياق وراء تهمة كيدية، غرضها الضغط على خصم سياسي، لإجباره على فك الارتباط مع رئيس الحكومة، والعودة إلى أحضان الرئاسة؟
بالتوازي مع الصراع السياسي والقصف الإعلامي المتبادل، تتسارع استعدادات الأطراف المتحالفة مع رئيس البلاد، للدفع نحو تحركاتٍ في الشارع، تحت شعار السترات الحمراء (نقلا عن النموذج الفرنسي)، وصولا إلى يوم الإضراب العام الذي قرّره الاتحاد العام التونسي للشغل ليوم 17 يناير/ كانون الثاني المقبل، والمعروف أن المنظمة النقابية تخوض صراعا ضد رئيس الحكومة الحالي، وترغب في إطاحته. وفي ظل هذا السياق المتصاعد للأزمة، تشير المواقع الإعلامية القريبة من حزب النهضة، ومن رئيس الحكومة، إلى ما تعتبرها تحرّكات مريبة، عرفتها تونس أخيرا، على خلفية زيارة رجل الأعمال وأحد عرّابي الانقلاب في مصر، نجيب ساويرس، تونس، واستقباله في قصر الرئاسة، واجتماعه مع قيادات حزب نداء تونس، شق حافظ قائد السبسي نجل الرئيس، والاستقبال الذي حظي به ولي عهد السعودي، محمد بن سلمان، على الرغم من ردود الفعل الشعبية الواسعة الرافضة للزيارة، وهو ما يثير نقاط استفهام عديدة بشأن طبيعة الاصطفاف الذي يجري في البلاد وامتداداته الإقليمية، خصوصا في ظل انزعاج الأنظمة المناوئة للثورة التونسية من استمرارية الانتقال الديمقراطي في البلاد، وسعيها المعلن إلى إجهاضه بأشكال شتى.
من المعلوم أن أي حراك سياسي يوظف الشارع في الصراع يهدف إلى غاية محدّدة، ولا يمكن تصور أن المقصود مما يجري المطالبة بحل سياسي، من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، خصوصا وأن الانتخابات النيابية والرئاسية ستُنجز في غضون شهور قليلة. وفي ظل ما تكشف عنه أخيرا استطلاعات الرأي التي تمنح تفوقا لرئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، في أي انتخابات رئاسية مقبلة في مواجهة الباجي قائد السبسي، وهو ما يعني أن حصول الانتخابات في وقتها لن تكون بالقطع لمصلحة الرئيس الحالي. فهل يمكن القول إن ما يجري خطوة لقطع الطريق على الانتخابات أو تأجيلها، في انتظار إعادة تشكيل المشهد السياسي العام، بما يسمح باستمرارية السبسي في منصب الرئاسة، وتحجيم نفوذ حركة النهضة؟ 
لا يمكن الإجابة بصورة قطعية عن السؤال، لكن الأكيد أن تونس مقبلة على شتاء سياسي ساخن، يتقاطع فيه الإقليمي مع الوطني والمطلبي النقابي مع السياسي الحزبي، في ظل حالة عزوف متزايدة عن فوضى الأحزاب، يعرفها الشارع التونسي.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.