السترات الصفراء.. هل بدأ تصدّع الاتحاد الأوروبي؟

السترات الصفراء.. هل بدأ تصدّع الاتحاد الأوروبي؟

14 ديسمبر 2018
+ الخط -
عادت جموع الفرنسيين ليوم السبت الرابع على التوالي إلى التظاهر في أنحاء البلاد بشكل واسع وكثيف، من دون تراجع، بل يبدو أن هناك تصميم أكبر على المضي في الاحتجاجات والمطالبة ليس فقط بإلغاء بعض القرارات المتعلقة برفع الضريبة على المحروقات، أو استقطاع مبالغ من المتقاعدين، أو من المساعدات الخاصة بالسكن، بل تطورت المطالبات إلى هتاف ذوي السترات الصفراء باستقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، وإعادة النظر بكل النظام الاقتصادي الذي يرى فيه الفرنسيون سبب تدمير اقتصادهم، وانخفاض مستواهم المعيشي سنة بعد أخرى. 
بغير ميعاد، تأتي الاحتجاجات الكبيرة والضخمة في التاريخ، ومنها تظاهرات السترات الصفراء التي لم تأت من فراغ، بل من مخاض يعود إلى أكثر من عقدين، أي منذ تم فرض عملة اليورو على دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما أثر كثيرا على المستوى المعيشي للطبقتين، الوسطى والعاملة، والأخيرة ألغيت (قصدا) من قاموس الإعلام، وحتى من خطابات ساسة أحزاب اليسار منذ التسعينيات. يوجد اليوم في فرنسا أكثر من عشرة ملايين شخص تحت خط الفقر. ومنذ عدة سنوات، تنزلق نسبة مهمة من الطبقة المتوسطة إلى مستوى الطبقة الفقيرة، فمنهم من يفقد عمله وتجارته وسكنه بسبب الضرائب ومراوحة الاقتصاد، وعدم وجود النمو المطلوب لتحريك القوة الشرائية للمواطن. وعلى الرغم من أن فرنسا بلد غني، وفيه أحد أفضل الأنظمة الاجتماعية والصحية في أوروبا، إلا أن المواطن الفرنسي يشعر أنه عاش سابقا أفضل من أبنائه اليوم، وهو يرى أمامه إغلاق المستشفيات، الواحد بعد الآخر، لتقليص النفقات أو 
طلب مساهمته في سد عجز ميزانيات بعض الخدمات التابعة للدولة، صعوبه تحمّل مصاريف دراسة الأبناء أو إيجاد عمل لهم، أو حتى فترة تدريب، إلى تقلص فرص العمل في قطاعاتٍ كثيرة، صعوبة ممارسة الزراعة والفلاحة وتوابعها من صناعة المواد المتعلقة بهذا الميدان، لمنافسة منتوجات الاتحاد الأوروبي أو ما يقرّره الاتحاد، وفق علاقاته ببعض الدول غير الأوروبية واستيراداته منها، فشهدت فرنسا ترك كثير من عمالها وفلاحيها أراضيهم ومهنهم، لعدم إمكانية الاستمرار بتحمل نفقات العمل وكلفه، بينما تكسر قرارات الاتحاد الأوروبي الأسعار الوطنية لصالح أسعار منتوجات الدول الأخرى.
وفي ميدان الصناعة، انتقلت غالبية المصانع إلى الدول الفقيرة منذ التسعينات، تاركة اليد العاملة الوطنية (المكلفة) رواتبها بالنسبة لمدراء هذه الشركات الكبرى والمصانع إلى يد عاملة بولونية أو بنغالية أو تونسية رخيصة، ما أدى إلى انتقال كل الصناعات الثقيلة إلى خارج فرنسا. وكما يقول زميل صحافي، أصبحت فرنسا ديكورا وتقديم خدمات فقط. مسألة نقل المصانع الثقيلة إلى خارج البلد الأم هي إحدى مشكلات البطالة التي لا يُعزى سببها فقط إلى الهجرة، وإلى المهاجرين التي تشهدها كل الدول الأوروبية، ومنها فرنسا، فمصانع السيارات، بيجو وستروين، هي من جاءت بالعمالة الجزائرية الرخيصة قبل عقود من الأرياف، بل تفضل الشركات الكبرى، ومتعدّدة الجنسيات، أصلا العمالة الأجنبية الرخيصة غير المسجلة نقابيا، والتي تعمل من دون ضوضاء، ولا احتجاجات، ولا مطالبات برفع الأجور، وما زالت، سواء في فرنسا أم في خارجها.
ليس ذلك فحسب، بل الأهم في المشكلات التي تواجه الفرنسيين ارتباط النظام المالي للدولة بالنظام البنكي الخاص، وليس بالبنك الوطني، ما سبب ديونا تتعدى ألفي مليار، تعاني منها الميزانية الفرنسية، كما دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، المرتبطة بالبنوك الخاصة المعروفة، والتي أصبحت ديونها للدول ريعا مهما وضخما وبئر ذهب تملأ خزائنها. ينشر مشكلاته العميقة في نسيج المجتمعات الأوروبية التي وصلت دولها إلى حد الإفلاس التام، كما حصل في اليونان، ولا يزال، حتى أن هذه البنوك قد عرضت إعطاءها جزرها الأربعمائة لتسديد الديون، فمنذ عام 1973، وهو تاريخ القانون، المسمى قانون روتشيلد على اسم البنك، والدولة الفرنسية، ومنذ عهد الرئيس جورج بومبيدو، مجبرة على الاقتراض من هذا البنك الخاص بفوائد، وليس من البنك الوطني خالي الفوائد، لتسديد قروضها، ولتسيير عمل الدولة الذي كان، في بداية الأمر، مفيدا لبناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية. ولكن الاستمرار بهذه الميكانيكية أصبح بمرور الزمن عبئا كبيرا على الدولة وميزانيتها ومواطنيها، وحتى استقلالها المرتبط به (الدولة أسيرة البنك)، ليتطور إلى عجز هائل، يتطلب الفكاك منه شجاعة كبيرة، خصوصا أن الرئيس ماكرون، كما الرئيس جورج بومبيدو، هما من كبار موظفي بنك روتشيلد.
ألغي هذا القانون عام 1994، لكنه، وبفضل معاهدة ماستريخت، ساد في الاتحاد الأوروبي ومعاهدة ليشبونة عام 2009 التي تطبقها فرنسا بحذافيرها. هكذا اصبحت كل دول الاتحاد الأوروبي بعد الحرب الثانية أسيرة هذا النظام، يفعل بها ما يشاء، ويقرّر إدارتها وحكمها. وهذا ما حدا بالمستشار السابق للرئيس فرانسوا ميتران، ومن بعده نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، إلى القول إنه لم يعد هناك لأي نائب من دول الاتحاد سلطة في دولته، بل إن سلطة الاتحاد الأوروبي وقراراته هي النافذة. يسأل النائب نيكولا دوبن إينان، في كتابه "احتيال القرن": هل من المعقول أن تستدين الدولة لبناء طريق أو لإنشاء شبكة هواتف، وتدفع 4% فوائد، بينما كانت تقوم بذلك كله بفائدة قليلة من بنكها الوطني؟ ويكتب عالم الاجتماع، إيمانويل تودد، إن هذه الديون غير شرعية. كما تعرّض خيرة اقتصاديي فرنسا لهذه الديون غير الشرعية، وكتبوا وحاضروا عنها بشكل واسع، ولم تعد خفية كما السابق على عامة الناس، إذ تناولها الإعلام البديل لإعلام الدولة. ويعرف المواطنون عنها، وكذلك خطورتها عليهم، كما على الدولة الفرنسية وكل دول الاتحاد الأوروبي التي يتعلق اليوم مستقبلها ومستقبل أجيالها وشعوبها بهذه البنوك الخاصة، ومنها البنك الدولي التابع والبنك الفيدرالي الأميركي.

لقد شيطن الإعلام حركة السترات الصفراء، واتهمت بالتآمر، وبأنها حركة فقط من اليمين واليسار المتطرفيْن، كما تمت شيطنة كل المدافعين عنها من السياسيين، مثل النائب فرانسوا روفن (من حزب فرنسا غير الخاضعة) الذي صرح بأن الشرطة قد حرّرت بشأنه ملفا تتهمه بقلب نظام الحكم وجان لوك ميلنشون رئيس الحزب نفسه. بل وأيضا تتم شيطنة بعض الشخصيات والنقابات المساندة، لكن أهم ما يقدم للمشاهد في الإعلام الحكومي وتوابعه هو العنف المصاحب للتظاهرات، واتهام من يريد التظاهر والاحتجاج بأنه من المشاغبين اللصوص، ومن المخرّبين الذين يستهدفون رموز الدولة، ويتآمرون عليها. بينما العنف الأكبر والأخطر هو العنف الذي يعيشه المواطنون الفرنسيون منذ عقود، ففي تقرير صدر أخيرا، 1%من أصحاب أكبر الثروات في فرنسا احتكروا 82% من الغنى المنتج في العام الماضي، وهذا الإنتاج هو ثمرة اليد العاملة التي تهبط قوتها الشرائية بشكل منتظم، والتي تمنع عنها زيادة الرواتب.
السترات الصفراء هم الشعب وهم الديمقراطية، هم الثورة، هم ليسوا يمينا ولا يسارا، ليسوا أتباع مارين لوبان اليمينية، ولا جماعة الفوضوية. إنهم شعب فرنسا العميقة التي سحقتها الطبقة فاحشة الثراء، والتي تمرّر عنفها بقوانين ما يسمى الاتحاد الأوروبي، مجمع لوبيات الاستغلال والجشع واحتقار الطبقات العاملة كلها، وليس فقط الطبقات العاملة الفقيرة. في وثبة أمل رائعة، تفتح السترات الصفراء باب التاريخ الفرنسي الحديث من جديد، لتحدث شرخا كبيرا، ستصدّع تبعاته المستقبلية جدار الاتحاد الأوروبي، قلعة البنوك الخاصة التي تدكّ بمعاولها لتهديم الشعوب والأوطان وتهميشهما من أجل مزيد من الأرباح.
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
ولاء سعيد السامرائي

كاتبة وصحفية عراقية مقيمة في باريس

ولاء سعيد السامرائي