دبلوماسية الزكام و.. ورق المراحيض

دبلوماسية الزكام و.. ورق المراحيض

13 ديسمبر 2018

كاريكاتير استقبلت به صحيفة ليبرتي الجزائرية بن سلمان

+ الخط -
تمخض جبل  بن سلمان، فوَلد مصنعا لورق المراحيض في الجزائر! هكذا يواصل الجزائريون سخريتهم اللاذعة، بعد أيام من الزيارة إياها لولي عهد السعودية إلى بلادهم. وهكذا كان لزاما، على ما يبدو، أن يكون الرد الجزائري في مستوى هذا النوع من التعاون "الفج"، رفضا مغلفا بسيلوفان الاعتذار الصحي، حمله بيان لرئاسة الجمهورية الجزائرية بتعذر لقاء الرئيس، عبدالعزيز بوتفليقة بولي العهد محمد بن سلمان، جراء وعكة صحية، كان من الطريف في حينه أننا أمام شكلٍ مستحدث من الدبلوماسية يصطلح عليها بـ"دبلوماسية الزكام".
انتقلت القصة برمتها، في الزيارة، من دائرة الحدث الضخم، والخطوة التاريخية، كونها الزيارة الأولى من نوعها للزعيم الشاب إلى أحد أكبر البلدان العربية قوة وتأثيرا، إلى دائرة السخرية حتى لا نقول العبث، تشرّبتها المقاهي الشعبية الجزائرية ومواقع التواصل الاجتماعي بالنكات والضحك حد الثمالة، ولا تزال. فما كان بالأمس حدثا كبيرا انتهى، كما يقال، إلى فاشوش، والزيارة التي كان يريد منها بن سلمان أن يثري بها سيرته الذاتية، بالتقاط صورة مع رئيسٍ في حجم بوتفليقة، لكسب مزيد من المصداقية داخليا وخارجيا في مواجهة الاتهامات التي تلاحقه في قضية جمال خاشقجي، لم تحقق هدفها الأبرز هذا، ولا يمكن لاستقبال الوزير الأول، أحمد أويحيى، الذي يوصم في الجزائر بصاحب "المهمات القذرة" أن يعوض غياب بوتفليقة في الصورة، فحتى إن كان السبب المعلن يتعلق بإصابة الرئيس بإنفلونزا حادّة ألزمته الفراش، إلا أن العارفين بخبايا النظام الجزائري، وحنكة الرئيس بوتفليقة الدبلوماسية، لا يستبعدون أن تكون مجموعة أسباب أخرى ضاغطة (علاوة على مرض الرئيس المعروف)، هي التي رفعت من أسهم "دبلوماسية الزكام" التي أشهرها الرئيس بوتفليقة في وجه ولي العهد السعودي.

السبب الأول والأبرز هو حجم الاستثمارات التي حملها معه الوفد السعودي، والتي تكون بعد اطلاع الرئيس بوتفليقة والمحيطين بها قد أصابت الجميع بخيبة للآمال، إن لم يكن فيها استخفافٌ بحجم الجزائر ومكانتها، حيث لم يتجاوز حجم الغلاف المالي للاتفاقيات الاقتصادية ومشاريع الشراكة المعلنة في هذه الزيارة عن المائة مليون دولار! وهو مبلغٌ وصف في الجزائر بأنه تافه، ولا يقارن بالمطلق بالخسائر الفادحة التي تكبّدتها الجزائر، والتي تقدّر بالمليارات، جرّاء زيادة السعودية في إنتاج النفط والانخفاض التاريخي في سعره، بل إن الأكثر إثارة للسخرية أن تكون المشاريع المبرمة إنشاء مصنعٍ لورق المراحيض بمبلغ 20 مليون دولار! وهي مبالغ أجمعت كل التعليقات الساخرة الصادرة في الجزائر على أنها لا تغطي حتى تكاليف مبيت الوفود السعودية في زيارتها هذه، بل إن في وسع آخر رجل أعمال جزائري بسهولة أن ينفق أكثر منها، إذا ما لعبت برأسه الصهباء المشعشعة في ليلة واحدة.
السبب الثاني حجم الغضب الشعبي من هذه الزيارة، والتي فشلت الفاتورة المالية والاقتصادية لها في رفع "الحرج" الذي شعرت به السلطات الجزائرية جرّاء استقبال زعيم تطارده جريمة مروّعة، أي مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول بتلك الطريقة التي يتحدث عنها الصغار والكبار في الجزائر، والتي لا تليق بحكام أرض الإسلام السعودية، ولا يمكن لصك الغفران أن تصدّره أرض الجهاد الجزائر.
السبب المهم الآخر أن "دبلوماسية الزكام" التي أبدعها بوتفليقة بكثير من العبقرية، وباتت علامةً مسجلة باسمه، وقد استعملها العام الماضي حتى مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تكون قد انتعشت قبيل زيارة بن سلمان الجزائر بكم الصور الهائلة التي وصلت إلى قصر المرادية في الجزائر، من لقاء مجموعة العشرين في بوينس آيرس، والتي بدا فيها ولي العهد السعودي منبوذا من معظم زعماء العالم، بمن فيهم الرئيس ترامب نفسه الذي، على الرغم من دفاعه عن بن سلمان في قضية خاشقجي، ووقوفه ضد تقرير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بهذا الخصوص، إلا أنه تفادى أن يلتقط صورة مع المشتبه به الأول في جريمة إنسانية هزت العالم.
تجنب الزعماء الكبار في العالم لقاء بن سلمان، أو مصافحته، وقد أدرك بوتفيلقة الذي مارس الدبلوماسية منذ نعومة أظفاره، تلك الرسالة، فكان لا بد من فكرة عبقريةٍ توازي عبقرية من اقترحوا إنجاز مصنع ورق المراحيض، لتؤكد أن الجزائر مهما ادلهمت بها الخطوب، كما يقال، لا يمكنها أن تتحمل فكرة أنها صارت "جمهورية رز" حميمة، كما أنها لا يمكن أن تكون في موقع ضعفٍ اقتصادي، يوازي حال موريتانيا، أو حتى تونس، حتى تستجدي العطايا والمكرمات، وهي فوق هذا وذاك، ليست أقل شأنا ولا شرفا من الجارة اللدود المغرب، التي وعلى الرغم من روابطها الوثيقة مع السعودية، رفضت، عبر ما يمكن تسميتها أيضا "دبلومسية الانشغال" بما هو أهم، أن تكون مجرد محطةٍ لالتقاط الصور المريحة، أو مغسلا لتبييض الهامات السوداء.

تدرك الجزائر ذلك جيدا، حتى وإن كان الرئيس بوتفليقة ليس في أفضل حالاته الصحية، فالعربية السعودية، وبكل الحسابات، ما كانت لتتذكر الشمال الأفريقي العربي، ودوله المنسية، إلا في قضاء العطل الملكية في طنجة وغيرها، لولا الورطة التي وقع فيها "طويل العمر" وهو يحتاج لأي قشّة نجاة، ولو كانت في سفوح نواكشوط. ولكن أن يكون المقابل بهذا الشكل، وأن تكون "المندبة" كبيرة والميت فأر، كما يقال، فهذا مما لا يمكن تحمّله، حتى وإن كانت منظومة الحكم الجزائرية بحاجة ماسة بدورها في ظل حالة الجمود السياسي الحاصل في البلاد، إلى جرعة "تدويل"، في انتظار ما يتم طرحه في الكواليس من قضايا "التمديد" للرئيس المريض شفاه الله.
المشكلة أن السعودية أخطأت على ما يبدو خطأ فادحا، فقد كان عليها، والله أعلم أن تنجز مصنعا للمناديل الصحية، بدلا من ورق المراحيض، على الأقل كان يمكنها تفادي الإنفلونزا السياسية التي خرجت من قصر المرادية في العاصمة الجزائرية، لكن الأقدار تشاء إلا أن تكون رحيمة بالشعب الجزائري، بأن تحفظ له بعض كرامته المهدورة في قبول زيارةٍ كهذه ليست في محلها بكل المقاييس، بأن يكون مرض الرئيس، لأول مرة ربما، منذ أصيب بجلطة دماغية، سببا جميلا، ومبرّرا سعيدا، في تفادي ما يعتبره بعضهم "اللقاء العار"، فالحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية