ارتدادات الربيع العربي في فرنسا

ارتدادات الربيع العربي في فرنسا

13 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم يستطع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن يمتصّ غضب حركة السترات الصفراء، في ضوء حالة التحفظ الشديد التي عمّت المتظاهرين، بعد خطابه مساء الإثنين الماضي؛ فعلى الرغم من إعلانه إلغاء الزيادة في الضرائب، والزيادة في الحد الأدنى للأجور، إلا أن ذلك بدا غير كافٍ، ما يطرح أسئلة كثيرة بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع في مقبل الأيام.
يرى قطاع واسع من الرأي العام الفرنسي أن هذه التدابير متأخرة، وكان في وسع الرئيس أن يتخذها قبل أن تتسع رقعة الاحتجاجات، وتتسبب في أعمال العنف والفوضى التي شهدتها البلاد خلال الأسبوع الماضي، ما يعني، بشكل أو بآخر، أن شرعية ماكرون قد اهتزت في نظر الشارع، حين بدا شبيها برؤساء لا يستجيبون إلا بعد أن تُظهر شعوبهم ''العين الحمراء''، فبدت استجابته لبعض مطالب المتظاهرين خطوة استباقية، حتى لا يرتفع سقف هذه المطالب، ويتطوّر المشهد نحو نقطة اللاعودة.
يقدم لنا الحدث الفرنسي مؤشرا دالا على التحولات التي تعرفها الحركات الاجتماعية في العالم، والتي تحيل على دينامية كونية واسعة، تعكس تطور الصراع الاجتماعي نحو مواجهةٍ مفتوحةٍ بين تحالفٍ تصطف فيه قوى الرأسمال والاقتصاد، والنخب التقليدية، والإعلام الرسمي من جهة، والطبقات الوسطى والفقيرة والمهمشين والمهاجرين والأقليات من ناحية أخرى.
هذه المواجهة لا تفرز سيروراتها بعيدا عما يحدث في مناطق مختلفة من العالم، فالواضح أن التدابير التي أقرّتها الحكومة الفرنسية تعود إلى مخاوف من أن ترفع حركة 'السترات الصفراء سقف مطالبها، بما يمكن أن يُفضي إلى ما لا تحمد عقباه. وفي الوقت نفسه، تبدو هذه الحركة معنية، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، بعدم تكرار أخطاء وقعت فيها انتفاضات وثورات شعبية، لا سيما التي شهدها العالم العربي قبل ثماني سنوات، وبالضبط ما حصل في مصر، حين اعتقدت القوى الثورية أن النظام قد سقط بتنحّي حسني مبارك ليلة 11 فبراير/ شباط 2011، بينما لم يكن ذلك أكثر من انحناء للعاصفة من العسكرتارية المصرية، وتراجعٍ تكتيكي لترتيب أوراقها، وهو ما أكدته الوقائع لاحقا.
هناك رسائل مُشفرة تتبادلها الحكومة مع المتظاهرين في فرنسا، في استحضارٍ ضمني من الطرفين لما حدث، بالأمس القريب، في المنطقة العربية، فالحكومة تتعاطى مع الاحتجاجات، بغاية ترويضها والحد من احتمال تحولها ثورة شعبية جارفـة. وربما لا مبالغة في القول إن حالة الارتباك والخوف التي بدا عليها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وهو يلقي آخر خطاب له قبل فراره إلى السعودية، كانت حاضرة، بدرجة أو بأخرى، في خطاب ماكرون، حين قدّم ما يشبه الاعتذار للفرنسيين، معترفا بتقصيره ومسؤوليته عما حدث. في المقابل، يرى المتظاهرون في ما يحدث في فرنسا فرصة تاريخية، قد لا تتكرر، لتعديل ميزان القوى الذي يميل لصالح الرأسمالية المتوحشة، وتحصينِ المكتسبات الاجتماعية التي حازتها الطبقة الوسطى الحضرية عقودا طويلة. من هنا، يبدو الحراك الفرنسي بمثابة احتجاج شعبي، ليس فقط على أداء السلطة والنخب ومؤسسات الوساطة، ولكن أيضا على تحكّم دوائر المال والأعمال في رسم السياسات وتوجيهها، وخصوصا في الحقل الاجتماعي.
بطبيعة الحال، ما كان لهذه الدينامية الكونية أن تتطور من دون وسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب أدوارا حاسمة في التعبئة السياسية، وتشكيل الرأي العام، وإعادة تحديد السياسة التي أصبحت عناوينُها الكبرى تتبلور انطلاقا من الشارع، بما هو فضاء عمومي تتجاذبه انشغالات الناس المرتبطة بمعيشهم اليومي.
الرسالة الأكثر دلالة في حركة السترات الصفراء هي رفضُ التصور التقليدي الذي تحتكر فيه السلطة والنخب ومؤسسات الوساطة وجماعات المصالح التفاوضَ حول السياسات، وتدبير مخرجاتها، بينما لا يتعدى دور الشارع والرأي العام استقبال هذه المخرجات، والامتثال لها، والاحتجاج عليها في أحسن الأحوال. وعلى هذا، يشكل الإعلام الجديد البوتقة التي تتفاعل عندها الحركات الاجتماعية المختلفة، وتُنتج مشروعية جديدة للفعل السياسي.
ضمن هذا السياق، ندرك أبعاد المخاوف التي عبر عنها إعلام قوى الثورة المضادة في العالم العربي، من انتقال العدوى الفرنسية إلى الساحات والميادين العربية، ما قد يخلط الأوراق، من جديد، في المنطقة التي لا تزال تعيش على تداعيات الربيع العربي.