الخبز والحرية ومستقبل الاتحاد الأوروبي

الخبز والحرية ومستقبل الاتحاد الأوروبي

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم يكن متصوّراً حتى في ذروة الأزمة المالية العالمية (2008)، وأزمة الديون اليونانية (2010) أن يثار السؤال جدياً بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي. فقط بعض مراكز البحث الأميركية الأقرب إلى اليمين كانت تشكك في نجاح المشروع واستمراره، لكن تحليلاتها لم تؤخذ يوما على محمل الجد بين التيارات السياسية والفكرية الرئيسة، ولا في وسائل الإعلام الرزينة، سواء في الولايات المتحدة أو العالم. 
أوضح مشهد أوروبا في الأسابيع القليلة الماضية بجلاء أنه ربما كان ثمّة ثقة زائدة، أو حتى شيء من المبالغة في الحديث عن حتمية نجاح المشروع الأوروبي، وربما بدأ هذا المشروع فعلياً يتداعى. وبنظرةٍ سريعةٍ على حال الاقتصادات الأوروبية الثلاثة الكبرى، يتبين مدى السوء الذي وصل إليه حال الاتحاد، ففي بريطانيا تعيش البلاد حالةً من الفوضى وعدم اليقين حيال قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكيفية الانعتاق منه، وهناك جزءٌ لا بأس به من النخب البريطانية يعتقد أن المركب الأوروبي يغرق، وأن بريطانيا اتخذت القرار الصائب، وفي الوقت المناسب، للقفز منه، لكن السؤال هو كيف وفي أي اتجاهٍ بحيث تتجنّب البلاد انهياراتٍ كبرى في الاقتصاد وقطاع المال والأعمال، وفي ثقة المستثمرين. في فرنسا، قد تبدو احتجاجات السترات الصفراء غير ذات صلةٍ مباشرةٍ بالسؤال بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، لكنها في حقيقة الأمر تقع في قلبه. إذ كشفت هذه الاحتجاجات عن مدى السوء الذي آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في البلد الذي يعد، نظريا على الأقل، صاحب مشروع أوروبا الموحدة، مع ضرورة التذكير بأن الاتحاد الأوروبي نشأ أصلا لحل معضلة فرنسا الألمانية، اقتصادياً وأمنياً.
لقد أخفقت الحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ الأزمة المالية العالمية على الأقل، في الالتزام بشروط العضوية التي أسهمت هي نفسها في وضعها لجهة حجم الدين العام الذي جاوز 100% من الناتج الإجمالي المحلي، والعجز في الموازنة الذي زاد عن 3% من الدخل القومي. والأسوأ أن فرنسا فشلت في تحقيق معدلات نمو حقيقية تسهم في الحد من حالة الفقر في البلاد، والتي بلغت نحو 15% في العام الجاري، فيما تصل إلى 40% في بعض ضواحي العاصمة باريس، وهي السبب الرئيس في تفجر الاحتجاجات الحالية. وبحسب المفوضية الأوروبية يعيش نحو 10 ملايين فرنسي اليوم تحت خط الفقر، المحدد بـ 3 يورو في اليوم (4 دولارات تقريباً)، كما أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء بلغت مستوياتٍ غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة (تأسست 1958)، إذ يملك 1% من السكان نحو 20% من الثروات. أما قاطرة الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، فقد اختصر مشهد اختيار خليفة للمستشارة أنجيلا ميركل في قيادة الحزب الديموقراطي المسيحي، مدى الانكسار الذي أصاب تيار "أوروبا موحدة" والليبراليين الأوروبيين بصعود اليمين وتفجر قضايا الهجرة واللجوء. لا داعيَ طبعاً للحديث عن أحوال بقية الأعضاء من إيطاليا إلى اليونان، فهي بالتأكيد أكثر سوءاً.
جوهر ما يجري في أوروبا اليوم يمكن اختصاره بفشل مزدوج على مستوى الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية على السواء، في التعامل مع جملةٍ من التحديات الكبرى التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين، وأدت إلى تغيير كبير في احتياجات سوق العمل ومتطلباته، والروافع اللازمة للاستمرار في تحقيق التنمية والرفاه العام.
لقد انشغلت أوروبا كثيراً خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بمجموعة أسئلة، في مقدمها الأمن الجماعي، وتعزيز قيم المواطنة وسيادة القانون والحريات الفردية والعامة والمبادرة الاقتصادية، لكنها فشلت في مواكبة جهودها في تعزيز هذه القيم الأساسية بمستوياتٍ مقبولةٍ من النمو والتنمية والرخاء الاقتصادي، وضمان حد أدنى من العدالة في توزيع الثروة. يؤكد ما يجري في أوروبا اليوم أن الحرية ليست بديلا عن العدالة الاجتماعية، وأن قيم المواطنة والديموقراطية لا تغني عن التنمية والرفاه الاقتصادي. تدرك أوروبا أكثر من غيرها مدى ارتباط الخبز بالحرية والتنمية بالديموقراطية، وكل تلك بالعدالة الاجتماعية، فهذه كلها سلة واحدة، تأخذها معا أو تتركها معا، تقوم معا أو تنهار معا.
AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري