الاستقلال اللبناني والاحتلال السوري.. حقائق تتوارى خلف الأضاليل

الاستقلال اللبناني والاحتلال السوري.. حقائق تتوارى خلف الأضاليل

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
احتفل اللبنانيون في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 بمرور 75 عاماً على استقلال لبنان عن فرنسا. ومنذ الآن، يستعد بعض القوى السياسية للاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان الجنرال الفرنسي غورو دولة لبنان التي لم يكن لها وجود قبل الأول من سبتمبر/ أيلول 1920، والتي صارت دولة خلافاً لإرادة معظم سكانها الرافضين للانفصال عن سورية آنذاك. وفي هذه المناسبة، تبارى لبنانيون كثيرون في الكلام عن الاستقلال الذي لم يسقط في سبيله غير شهيد واحد، هو سعيد فخر الدين. وقاد رئيس حزب التيار الوطني الحر، جبران باسيل، نفراً من أنصاره إلى صخور نهر الكلب، لتعليق لوحة تؤرخ الانسحاب السوري من لبنان على غرار اللوحة الرخامية التي تؤرخ جلاء القوات الفرنسية عن لبنان. وفي معمعان هذه "الهيصة" الزجلية، راحت عبارة "الاحتلال السوري" تهر من أشداق الكتائبيين وجماعة القوات اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار ومناصري التيار الوطني الحر، وتحل في محل عبارة "الوصاية السورية". وكان من الواضح أن هؤلاء لا يمتازون بأي معرفةٍ متينةٍ، وجل ما يتميزون به هو الضحالة الثقافية والجهل المفضوح، حتى بالوقائع القريبة التي لم تطمسها الأيام بعدُ.
إن عبارة "الاحتلال السوري"، وقبل ذلك "الاحتلال الفلسطيني"، مهينة لجميع اللبنانيين الذين تعاملوا بهذا القدر أو ذاك مع الوجود السوري في لبنان. ومن البدهي أن مَن يتعامل مع أي احتلال يُعتبر عميلاً، وتجب محاكمته حين يصبح الأمر ممكناً. الآن، لننعم النظر قليلاً في هذه المسألة؛ فحين دخل الجيش السوري إلى لبنان في عام 1976 بدعوة من رئيس الجمهورية آنذاك، سليمان فرنجية، ومعه قادة الكتائب والأحرار والرهبانيات، أي بيار الجميل وكميل شمعون وشربل قسيس وإدوارد حنين وغيرهم، راح فريق من اللبنانيين ينثر الأرز وماء الورد والرياحين على الجنود السوريين، فيما تنافست زوجات السياسيين في إقامة المآدب الفاخرة على شرف الضباط. وبهذا القياس، فإن هؤلاء جميعاً عملاء للاحتلال السوري. أما الحركة 
الوطنية اللبنانية، ومعها منظمة التحرير الفلسطينية، فكانتا مناوئتين للدخول السوري إلى لبنان، أي أن هؤلاء كانوا الوطنيين والمقاومين. لكن، في سنة 1978 دخلت إسرائيل إلى لبنان، واحتلت قسماً من أراضيه، ونصّبت عميلها سعد حداد حاكماً للمنطقة المحتلة. وانقلب كثيرون على سورية والتحقوا بإسرائيل، كالقوات اللبنانية، فصارت العمالة مكررة هنا، ويبدو أن نشوتها أعلى مما كانت عليه الحال مع السوريين. ومَن كان مناوئاً لسورية تحول إلى التحالف معها بعد زيارة الرئيس أنور السادات القدس في سنة 1977، أي أنه صار عميلاً لسورية كذلك. وبهذه الحسبة، أصبح جميع اللبنانيين عملاء لسورية، ونصفهم لإسرائيل، وهذه إهانة مكعبة للبنانيين.
مهما يكن الأمر، على مَن يتشدق بتوزيع شهادات العمالة لـِ "الاحتلال السوري" أن يعرف مواقع قدميه، قبل أن يخطو خطوة واحدة في هذا الميدان، فالعمالة للخارج هي حرفة فئات كثيرة في لبنان، ما برحت تتناسل منذ فخر الدين المعني وبشير الشهابي حتى بشير الجميل... ويتحدثون بعد ذلك عن العنفوان والحرية والسيادة والاستقلال. لنتذكّر عنفوان بشير الجميل في مدينة نهاريا في 1/9/1982 بعد انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية المستقلة رسمياً منذ سنة 1943، والمحتلة منذ ثلاثة أشهر؛ ففي ذلك الاجتماع الذي حضره الجميل إلى جانب جوزف سعادة وجورج فريحة بعد أن نقلتهم طوافة إسرائيلية من جونية، عومل الرئيس بشير الجميل باحتقار، فلم يستقبله أحد باعتباره رئيسا للجمهورية (كان دافيد كيمحي وحده في استقباله)، ووُضع الزائرون في باص نقلهم إلى معمل تحول إلى ثكنة عسكرية، ولم ينتظره مناحيم بيغن عند وصول الطوافة، ولم تؤدَ له التحية الرسمية، ولم يودعه أحد في نهاية الاجتماع.

صاحب الاستقلال
الصانع الأول للاستقلال اللبناني عن فرنسا ليس بيار الجميل بالتأكيد، وليس كميل شمعون بالطبع، بل الكتلة الوطنية في سورية التي كان شكري القوتلي أبرز أركانها، فقد أذعنت الكتلة الوطنية لمطالب الفرنسيين، وقبلت الاعتراف بانفصال جبل لبنان عن سورية، وتنازلت له فوق ذلك عن طرابلس والهرمل والبقاع وحاصبيا ومرجعيون حتى صيدا. آنذاك، تظاهر أهالي طرابلس ضد الكتلة الوطنية في سورية، لأنها تخلت عنهم، وأرغمتهم على الالتحاق بلبنان. وأصيب سكان بيروت بالخيبة (عدا تجارها) لأنهم كانوا عقدوا دورتين لمؤتمر الساحل، أي ساحل سورية الذي تعتبر بيروت إحدى مدنه، للمطالبة بالالتحاق بسورية، وعدم إلحاقهم بلبنان. وقبلهم بايع سكان الجنوب اللبناني فيصل الأول ملكاً على سورية في مؤتمر وادي الحجير.أما الصانع الثاني للاستقلال اللبناني فهو الجنرال الإنكليزي سبيرز، وكان يجب أن تُعلّق له لوحة على صخور نهر الكلب، عرفاناً بفضله، وعدم الاكتفاء بإطلاق اسمه على الشارع الذي يقع فيه القصر الجمهوري القديم. والجنرال سبيرز هو الذي جاء ببشارة الخوري رئيساً للجمهورية وبرياض الصلح رئيساً لحكومة ما بعد الاستقلال. أما إميل إدّة، فكان صنيعة لفرنسا، والصديق المدلل لدى الوكالة اليهودية. وقد خُلع إميل إده وجيء بالخوري والصلح رغماً عن فرنسا التي كانت لم تُشفَ بعد من عقابيل الاحتلال الألماني، ومثخنة بما أنزله بها الوطنيون السوريون الذين ناضلوا طويلاً في سبيل جلاء فرنسا عن سورية (بما في ذلك لبنان). آنذاك، تشبث لبنانيون كُثر ببقاء فرنسا لحماية الموارنة من أشباح المسلمين. وفي النهاية، لم يكن "الاستقلال" إلا تسوية سياسية قوامها لبننة مسلمي لبنان، وتعريب الموارنة، أو ما صيغ بطريقة أخرى هي: تخلي المسلمين عن الانضمام إلى سورية، وتخلي الموارنة عن التشبث بفرنسا وطلب الحماية من الخارج.
لنلاحظ كيف تصرف أنصار الحرية والسيادة والاستقلال لاحقاً في دولة الاستقلال، فجبهة تحرير لبنان من الغرباء التي أسسها إلياس حنوش (الحنش)، وهو من حزب الوطنيين الأحرار (لاحظوا النفاق في عبارة "الوطنيين الأحرار") تبيّن أن الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) هي مَن أسست تلك الجبهة في ثمانينيات القرن المنصرم. وهذا ما كشفه رونين بيرغمان في كتابه "انهض واقتل أولاً: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية الموجهة" (راجع صحيفة الأخبار، 21/6/2018). وقد اغتيل الحنش في بيروت، بطريقةٍ تليق بما كان عليه في حياته. وحزب الكتائب (ما غيرو) كان دائماً حليفاً طبيعياً لإسرائيل، حتى قبل أن يتجرّأ العضو إلياس ربابي على الاتصال بالدوائر الإسرائيلية، وتلقيه الأموال منها. أما التحالف الكتائبي مع سورية، فكان مؤقتاً وللضرورة القاهرة. والضرورة القاهرة كانت آنذاك هزيمة اليمين الفاشي اللبناني في الحرب التي فجرها في سنة 1975. لهذا لم يكن غريباً أن ينقلب حزب الكتائب في سنة 1978، ومعه حزب الوطنيين الأحرار، على سورية التي أنقذتهم في سنة 1976. ومن علامات الغدر في تلك المرحلة هجوم الضابط سمير الأشقر في 20/2/1978 على جنود سوريين كانوا نياماً، وبعض الجنود كان يغسل ثيابه، فقتل 26 جندياً وجرح 36 في ما عُرف بحادثة الفياضية. ولم يفعل "الاحتلال السوري" شيئاً غير المطالبة بمحاكمة سمير الأشقر. ورفض الأشقر تقديم نفسه للمحاكمة، واعتصم في منطقة المطيلب القريبة من بلدة بيت شباب، وراح يطلق النار على القوة العسكرية اللبنانية التي جاءت لاعتقاله، فأصيب بجروح. وفي أثناء نقله إلى سيارة الإسعاف، جرت تصفيته (انظر شهادة قائد الجيش اللبناني الأسبق ابراهيم طنوس في: نبيل المقدم، وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية، بيروت: دار نلسن، 2016). ومن دواعي السخرية أن سمير جعجع "المقاوم" يؤرّخ "مقاومته" بعملية سمير الأشقر هذا الذي هو، بحسب القانون اللبناني، مجرم بلا تردد، والطيور على أشكالها تقع.
يقول كاي بيرد في كتابه "الجاسوس النبيل" (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ص 212) "إن الكتائبيين أجبروا طوني فرنجية وزوجته فيرا في 13/6/1978 (مجزرة إهدن) على مشاهدة إعدام طفلتهما جيهان البالغة ثلاث سنوات، فأفرغوا في جسدها 24 طلقة، ثم قتلوا فيرا، ثم طوني". وفي مجزرة الصفرا (7/7/1980) كان مقاتلو القوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل يرمون الناس من الشرفات، فيما آخرون يصطادونهم كالعصافير في أثناء السقوط. وحين فشل إيلي حبيقة في اختراق منطقة الأشرفية في 27/9/1986، راح مناصرو سمير جعجع يأخذون أنصار حبيقة إلى البحر قبالة مرفأ بيروت، ويضعون في أرجلهم الأثقال، ثم يرمونهم في الماء (رجينا صفير، ألقيت السلاح، بيروت: دار الفارابي، 2008). هؤلاء هم رجال "المقاومة اللبنانية" تبع السيادة والحرية والاستقلال الذين تقرّحت ركبهم لكثرة الركوع أمام كل راغب.

عملاء "الاحتلال السوري"
الكلام الساري في الأفواه في لبنان يركّز على أن سورية هي التي أرسلت الزعماء المسيحيين إلى المنفى (ريمون إدة وأمين الجميل وميشال عون) وسجنت رابعهم، أي سمير جعجع. والحقيقة أن سورية ألجأت كثيرين إلى مغادرة لبنان إلى المنافي، غير أن ريمون إدة فرّ من لبنان لا بسبب السوريين، بل بعد تعرضه لمحاولات اغتيال متعددة نفذها الكتائبيون، فأُصيب
برصاصة في قدمه في آخر محاولة لاغتياله قبل مغادرته إلى باريس. أما أمين الجميل فإن مَن ألجأه إلى مغادرة لبنان هو سمير جعجع بالتحديد. وأمين الجميل كشف بنفسه أنه تلقى إنذاراً من القوات اللبنانية بوجوب مغادرة لبنان خلال 48 ساعة، بعد انتهاء ولايته الرئاسية، وأن زوجته جويس تلقت الإنذار من كريم بقرادوني. وبناء على ذلك، غادر الجميل بطوافة عسكرية لبنانية إلى مطار لارنكا، ومن هناك أقلته طائرة عصام فارس الخاصة إلى باريس (السفير، 24/10/1988). وفي حديث إلى الصحافي علي حمادة (الحياة، 4/12/1990) قال
أمين الجميل إن صديقاً مشتركاً (له ولجعجع) أبلغه أن سمير جعجع يريد قتله. أما سمير جعجع، قائد عملية إهدن، فقد أُدخل إلى السجن بناء على حكم صادر عن أعلى مرجع قضائي في لبنان، هو المجلس العدلي المؤلف من أعلى خمسة قضاة مشهود لهم بالنزاهة والحياد والكفاءة، وفي مقدمتهم راهب القضاء فيليب خير الله، بعد ثبوت تهمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي وداني شمعون وزوجته وولديه. أما ميشال عون فأزيح بقرار أميركي – سعودي – سوري كما هو معروف، وبتنفيذ سوري – لبناني مشترك.
ليس هذا الكلام دفاعاً عن الوجود السوري في لبنان، ومصائبه كثيرة، بل دفاعا عن الحقائق والوقائع الصحيحة التي تدأب الزعبرات اليومية في لبنان على مواراتها خلف حُجُبها. والآن، لنرَ مَن هم الذين تعاملوا مع "الاحتلال السوري" منذ سنة 1976 ودافعوا عنه ومهدوا سُبُله. بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب كان يقول: "لا نرى مانعاً في أن تتولى قوات سورية مؤازرتنا في تثبيت الأمن" (النهار، 12/5/1976)، ويضيف: "إن القوات السورية دخلت إلى لبنان بناء على تأييد مختلف الفئات اللبنانية" (النهار، 13/7/1976)، ويؤكد أن "المبادرة السورية جاءت بموافقة جميع الأطراف (...)
واستُكملت بتأييد شرعي من جانب السلطة الشرعية" (النهار، 20/7/1976). ويقول أيضاً: "كنا أول مَن طالب بقوات ردع لفرض الأمن [في لبنان] وإعادة السلام" (التصريح اليومي، 5/11/1976). ولم يتورع عن الإفصاح بالقول: "إننا نستقبل قوات الردع في مناطقنا كقوات حليفة وشقيقة ونتعاون مع الحكم السوري بكل صدق وإخلاص" (24/1/1977). ويستطرد: "إن وجود القوات السورية في لبنان هو من أجل دعم السلطة اللبنانية ومساعدة الدولة على بناء ذاتها وبناء قواتها" (11/2/1978). هذا ما كان يقوله بيار الجميل، وهو ما لم يقله البعثي عاصم قانصوه في تلك الفترة. وعلى منواله نسج ابنه أمين الجميل أقواله ومنها: "أنا أعترف بأن أخواننا السوريين كانوا صادقين بتركهم القضايا الداخلية اللبنانية للبنان (...) وهي [أي سورية] لا تتدخل في شؤوننا. وأنا أعترف بأنهم أعطوا السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية اللبنانية" (صحيفة العمل.. الكتائبية، 15/4/1977). واللافت أن أمين الجميل حتى بعد مؤتمر الطائف لم يتردد في القول: "لا أمانع أن يكون السوري في قلب بكفيا، وأن يشرف على قلم الاقتراع، وأهلاً وسهلاً به" (ميشال بو نجم، مجلة "الوسط"، 6/7/1992).
* * *

كشف يوسي ميلمان ودان رفيف أن بشير الجميل كان عميلاً للاستخبارات المركزية الأميركية (انظر: أمراء الموساد، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991). وأورد كاي بيرد في كتابه "الجاسوس النبيل" أن الصحافي الأميركي، بوب ودورد، ذكر أن بشير الجميل كان عميلاً مدفوع الأجر لوكالة المخابرات الأميركية (ص 193). وكان جورج حبيس أحد زعران الخطف في بيروت الشرقية يقول: "إن الفلسطيني لا نحقق معه ولكن نقتله" (جوزف سعادة، أنا الضحية والجلاد أنا، بيروت: دار الجديد، 1991، ص 119). أما أحد رجال الكتائب فقال لأمنون روبنشتاين: "موت الفلسطيني هو تلوث، أما موت جميع الفلسطينيين فهو الحل" (أمنون كابليوك، تحقيق في مجزرة، باريس المكتب العربي، 1983).
هؤلاء هم فرسان الحرية والسيادة والاستقلال والتبجح بمقاومة "الاحتلال السوري" في لبنان. فبئس الحرية والسيادة والاستقلال إذا كانت الفاشية المتجدّدة في لبنان هي مَن يرفع لواءها في هذه الأيام. ولعل من الصواب، ولو من باب القياس والمقارنة، أن نعلق صور هؤلاء "المآومين" وأسماءهم على صنوبر بيروت أو على عمود خلدة في ما لو كان العمود ما يزال قائماً.