في تاريخ الخبز المغمس بالدم

في تاريخ الخبز المغمس بالدم

11 ديسمبر 2018
+ الخط -
كما حورب اليهود في خبزهم، وجب على الطغاة أن يحاربوا شعوبهم في لقمة الخبز، حتّى يثبتوا لبني إسرائيل وحكّام العالم المتصهين ولاءهم! 
يعبّر المثل الشعبي عن صعوبة الحصول على رغيف الخبز بالقول: "إنّه مغمس بالدم" لكنّ العامة بالتّأكيد لا يقصدون القصة اليهودية المتداولة عن فطائر الدم التي يصنعها اليهود.
تقول الحكاية، وهي حادثة واقعية مسجلة في المحاكم الشرعية في حلب وحماة ودمشق حدثت يوم الجمعة 7 فبراير/ شباط 1840. دخل الأب توما حارة اليهود في دمشق واختفى، وحين تبعه خادمه، ليسأل عنه اختفى أيضاً! فتقدم القنصل الفرنسي إلى ديوان الوالي العثماني بشكوى، يطلب فيها البحث عن الأب توما وخادمه إبراهيم عمارة. تبين نتيجة البحث أنّ الحاخامات في حارة اليهود استدرجوا الأب توما، وقيّدوه وذبحوه، وهم في أثناء الذبح يضعون الرأس على طست، ويحرصون على عدم إضاعة نقطة دم واحدة، وبعد أن صفي دمه قطّعوه إرباً، ودقوا عظامه بالهاون، ورموه في البالوعة.
المهم في الحادثة أنّ الحاخامات استخدموا دمه في صنع الفطير الذي يوزّع على الأتقياء من اليهود في بلاد الشام والعراق. ونتيجة التحقيق مع القاتل، طلب الدخول في الدين الإسلامي، وسُمّي محمد أفندي أبو العافية! وذكر في التحقيق معه أنّ "أهل الذمة" مسيحيون وإسلام حيوانات وحوش لا يستحقون العيش بحسب التلمود؛ لذا يقتل اليهودي الآخر من غير دينه، من دون إحساس بالذنب أو الإثم فهو يخدم دينه وعقيدته، ولهذا السبب أيضاً سرق الحاخامات ساعة الأب توما، بحجة أنّ روحه مباحة لهم فكيف لا تكون ساعته مباحة!

التاريخ حافل بالقصص التي ذهب أصحابها ضحايا، وقتلوا في سبيل حصولهم على رغيف خبز؛ لذا عبّر العوام عن الشقاء الذي يلاقونه في سبيل الخبز، وهو أساس الطعام بهذه الطريقة. لكنّ أحداً لم يتصوّر يوماً أن ينفذ الفكرة طاغية مجنون، فيقتل الناس عند الأفران، ويترك دمهم على أرغفة الخبز، ليترك للتاريخ قصّة سيرويها الناس عن أصل المثل، وكأنّه وضع الآن.
ربّما تكون الثورة الفرنسية الأشهر بين الثورات عبر التاريخ بارتباطها برغيف الخبز. والموقف المشهور الذي تندر به الفرنسيون والعالم أجمع فيما بعد حين تساءلت ماري أنطوانيت عن سبب هياج الشعب في الخارج، فقيل لها إنّهم يطالبون بالخبز ولا يجدونه، فقالت: ليأكلوا البسكويت. وهي مقولة مشكوك في صحتها. الواقع أنّ سبعة آلاف امرأة حاصرن قصر فرساي يطالبن بالخبز، وهذا المثبت تاريخياً، لكن لا بأس دائماً من وجود قصّة لافتة وغريبة ومبهرة أو حزينة ومريرة قد لا تكون حقيقية لكنّها أصدق من الحقيقة والواقع. .. الجوع إذن هو سبب الثورات في العالم!
قبل الثورة السورية، كان مخزون سورية من القمح خمسة ملايين طن، بعد الثورة تقلصت الأرض المزروعة بنسبة 30%، وارتفع سعر النفط وأثّر ذلك على رغيف الخبز! لكنّ النظام لم يكتفِ بكلّ هذا التضييق على السوريين، بل ضرب الأفران بالصواريخ والبراميل المتفجرة وقتل أرتال الناس الواقفين بانتظار الخبز ليغمس أرغفتهم بدمائهم.
لم تكن الثورة السورية بسبب الجوع، وقد تداول المصريون والسوريون المقيمون في مصر طرفة قد لا تكون حقيقية، لكنّها معبرة وصادقة وأقرب إلى الحقيقة إنّ رجلاً سورياً أراد شراء كيلو جوز (عين الجمل)، وحين سأله البائع المصري ماذا ستفعل بكلّ هذه الكمية أخبره أنّها من أجل المكدوس، وشرح له أنّ المكدوس هو باذنجان صغير يسلق ويملح ويكبس حتّى يتخلص من المياه ثمّ يحشى بالجوز والفليفلة الحمراء الحادة والثوم، ثمّ يرصف في قطرميز ويحفظ بزيت الزيتون. فقال البائع: "تحشون الباذنجان بعين الجمل وتحفظونه بزيت الزيتون! لماذا قمتم بالثورة إذن؟". في الواقع، كانت جماعة "كنا عايشين" يقولون هذا أيضاً؛ لأنّهم 
تعودوا أنّ الثورات تقوم دائماً بسبب الجوع، لكنّ الثورة السورية كانت ثورة كرامة، قبل أن تكون ثورة رغيف خبز، فأراد لها النّظام وطاغيته، بشّار الأسد، أن تتحوّل إلى ثورة مسلحة وثورة حرامية وثورة رغيف. ففي أريحا بدأت معركة الأفران وثورة رغيف الخبز ببسط هيمنتها، وبدأت بأزمة سيطرة المجلس المحلي على لقمة الخبز، لإخضاع الناس وحصر اهتمامهم بكيفية الحصول على الخبز، وعدم التدخل في شؤون البلد التي يديرها المجلس والهيئة الشرعية والفصائل المسلحة، تماماً كما كان الوضع في ثمانينات القرن الماضي أيام الأب القائد حافظ الأسد.
ويبدو أن أبو العافية كان أحد جدود "أبو الحشرات" بشّار الأسد، الذي وصف المتظاهرين السلميين في بداية الثورة السورية بالحشرات، واعتبرهم غير أهل للعيش، فأطلق عليهم الرصاص وقتلهم، ولم يترك ذلك لديه إحساساً بالذنب، فهو يخدم عقيدته وعقيدة أسياده. ويمكن للمرء أن يتخيّل منظر الرئيس وهو يتناول طعامه في شرفة قصره، ويغمس تلك الأرغفة بالمربى والحلويات، ويتناولها بشهية ويضحك ضحكته الشهيرة "إنّهم وحوش وحشرات لا يستحقون الحياة"
هكذا الطغاة دائماً، يرعبهم خبز الحرية، فيغمسون خبزهم بدماء شعوبهم، كي يحافظوا على أعلى منسوب للذل في شرايين عبيدهم.
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
ابتسام تريسي
ابتسام تريسي