صدع في جبهة فلسطين الدولية

صدع في جبهة فلسطين الدولية

11 ديسمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من الأداء السياسي الباهر الذي تجلت عليه الدبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة، من خلال بعثتها الكفؤة، المثيرة لأفضل الانطباعات، ونجاح تلك المساعي الدؤوبة، المنسقة جيداً مع المجموعة العربية، في إسقاط أول مشروع أميركي من نوعه لإدانة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد كان هذا الإنجاز المستحق، كهدف في الوقت بدل الضائع، تحقق بشق الأنفس من ركلة جزاء فادحة، أو قل بفضل مناورة إجرائية حاذقة، قضت، في اللحظة الأخيرة، بضرورة حصول مشروع القرار الأميركي على أصوات ثلثي الأعضاء، لاعتماده قرارا أمميا صادرا عن الجمعية العامة.
ومع أن سواداً قد اكتسى وجه مندوبة الولايات المتحدة نيكي هيلي التي خاضت آخر معاركها الفاشلة في المنظمة الدولية، وأن كلمة تفيض مرارةً علّق بها المندوب الإسرائيلي على حصيلة التصويت الأممي، كانتا كافيتين لتظهير تلك المواجهة الدبلوماسية انتصارا كبيرا حققته منظمة التحرير الفلسطينية ضد الدولة العظمى الوحيدة، إلا أن التدقيق في مكوّنات الصورة الإجمالية لا يبعث على الاطمئنان لدى من ظلت منظمة الأمم المتحدة تُعتبر ملعباً لهم طوال العقود الماضية، ينتزعون فيه، دائماً، أغلبية وازنة شبه أوتوماتيكية.
لسنا في معرض التقليل من حجم الإنجاز المتحقق على يدي قيادة المنظمة والسلطة الوطنية، وكل من ترفّعوا عن الخلافات الداخلية الجزئية، وأسقطوا من اعتباراتهم الحسابات الصغيرة، ولا نود أن نكون مثل مخربي الفرح ليلة الزفّة، غير أن المكاشفة تقتضي رؤية المشهد بكل أبعاده، وقراءة الموقف بكل معطياته، ومن ثمّة التحذير من الابتهاج المبالغ به كثيراً، بما في ذلك اعتبار تلك النتيجة الطيبة صفعةً على وجه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أو إيهام الذات أن المقاومة قد نالت بفضل هذا التصويت الملتبس مشروعية دولية مضمونة.
وإذا كان صحيحاً أن مشروع القرار الأميركي لم يعبر عتبة الثلثين، بفضل تلك المناورة التكتيكية البارعة، فإن من الصحيح أيضاً أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تصوت فيها أغلبية الدول الأعضاء لصالح إسرائيل، حيث نال ذلك المشروع أصوات ممثلي 87 دولة، ولم يعارضه سوى مندوبي 57 دولة، أي ما يوازي عدد أعضاء منظمة التعاون الإسلامي، وهو ما يشكل جرس إنذار مبكر، يقول إن هناك تبدلاً ما في البيئة الدبلوماسية الدولية ينبغي العمل حثيثاً على كبحه، قبل أن يستفحل مع مرور الوقت.
على مثل هذه الخلفية من الحقائق والوقائع المختلطة، يمكن الاستنتاج بلا تعسف أن ذلك التصويت حقق مكسباً لا سابق له بالنسبة لإسرائيل المنبوذة المعزولة في الجمعية العامة، وإنها سجلت تحسّناً، وإن كان بدرجة طفيفة، في الموقف الدولي العام الذي كان غير مؤاتٍ على طول الخط لأشرعة سفن آخر دولة احتلال في العالم، لا تجد من يقف إلى جانبها، ويحميها من إدانة الشرعية الدولية، سوى الولايات المتحدة، وعدد يقل عن عدد أصابع اليدين، من دول صغيرة مجهرية، أشهرها ميكرونيزيا "العظيمة" التي أثار تصويتها لصالحهم في المرات السابقة سخرية الإسرائيليين أنفسهم.
وبحسب اللعبة الصفرية الراهنة، كل مكسب في الموقف الدولي لصالح إسرائيل هو في واقع الحال خسارة صافية لفلسطين، ويعكس، في الوقت ذاته، تراجعاً في التأييد الأممي لنضال شعب في أمسّ الحاجة إلى مزيد من الدعم والإسناد الدبلوماسي، في مواجهة قوة عظمى عمياء، لا تتورّع عن تهديد الدول الأعضاء بالويل والثبور، وعظائم الأمور، بما في ذلك قطع المساعدات، إن هي خرجت عن الطوع الأميركي. فما بالك إذا كان الأمر متعلقاً بالحليف المدلل، وكان في سدة البيت الأبيض رئيسٌ يقف على يمين غلاة المتطرّفين الليكوديين؟
إزاء ذلك كله، نقول إن صدعاً قد حدث على الجبهة الفلسطينية الدولية مع الأسف، تحقق ليس بفعل أغلبية عددية غير مسبوقة، وإنما أساساً بفعل أغلبية تصويتية نوعية مرجِحة، قوامها دول الاتحاد الأوروبي جميعاً. وفي ذلك إشارة مقلقة للغاية، ينبغي الالتفات إليها منذ الآن، بالعمل على إعادة تصويب بوصلة المقاومة، واستخلاص العبر المفيدة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي