"برلين 1933".. عمى الصحافة الغربية وتواطؤها

"برلين 1933".. عمى الصحافة الغربية وتواطؤها

11 ديسمبر 2018

صحف ألمانية في باريس إبان الاحتلال النازي (1942/Getty)

+ الخط -
يطرح كتاب "برلين 1933، الصحافة العالمية في مواجهة هتلر"، للصحافي دانييل شنايدرمان، الصادر أخيرا في فرنسا عن دار لوسوي (2018)، الأسئلة التي ينبغي لكل إعلامي أن يطرحها على نفسه، وعلى آخرين، حين يكون في مواجهة أحداثٍ كبرى. وشنايدرمان، كما يعرّف نفسه، هو "ناقد للوسائل الإعلامية"، برز اسمه عبر إدارته موقعا وبرنامجا تلفزيونيا شهيرا بعنوان "التركيز على صورة"، يتطرّق فيه لمختلف وسائل الإعلام وكيفية تناولها أهمّ موضوعات الساعة. أما عن السؤال المصيب الذي يطرحه المؤلّف، وهو قد ورد حتما على أذهان كثيرين: لمَ لمْ تبلغ الصحافة الغربية التي كانت على دراية تامة بكل ما ترتكبه النازية الألمانية من فظائع العالم عمّا كان يجري، ولمَ مارست كل هذا التواطؤ الصامت مع القتلة والمجرمين؟
من خلال الاطلاع على الأرشيف الصحافي الثري جدا لتلك الفترة، ومعاينة ما لا يقلّ عن مئتي مصدر متمثّل في مقالات مراسلي الصحف الفرنسية والناطقة بالإنكليزية الذين كانوا حاضرين في برلين ما بين الأعوام 1933- 1941، سوف يكوّن القارئ فكرةً وافيةً عن كيفية تعامل الجرائد والمجلات العالمية مع سياسة هتلر آنذاك، وسيذهله تعاميها عن نقل الحقائق، لا بل كذبها وانحيازها إلى البروباغندا النازية. من تلك الأمثلة ما كتبه مراسلُ صحيفة نيويورك تايمز عن أول معسكر نازيٍّ للاعتقال في داشو (تأسّس في 21 مارس/ آذار 1933)، إذ وصفه بأنه "تقريبا صورة نموذجية لمخيّم عطلة وانشراح"! مع العلم أن المعارضين السياسيين كانوا يرسلون إلى داشو في البداية، ومن ثم اليهود وأسرى الحرب السوفييت، والنساء والمثليين والغجر، حيث كانوا يقضون تجويعا وتعذيبا وقتلا.
في العام 1935، بعد إقرار ألمانيا قوانين تشرّع ممارسة التمييز العنصري ومعاداة السامية، كتب مراسل صحيفة باري سوار، الفرنسية، أن المؤتمر السابع للحزب النازي "يكشف عن ألمانيا قوية ونابضة"، في حين يعلّق شنايدر قائلا: "في مواجهة الانبثاق الهتلري، أبواقه وتهديداته ووعوده، تقلّصت لغةُ الصحافة الأجنبية لتتحوّل إلى مجرّد قرقرة تُسمَع بالكاد"، وذلك على الرغم من وجود إشاراتٍ ضعيفةٍ، وإنما واضحة، تمّ إغفالها.
كان عدد المراسلين الأجانب في برلين يعدو 200 صحافي فرنسي، بريطاني وأميركي، إلا أن عام "الحل النهائيّ" للمعضلة اليهودية شهد طرد عدد كبير من بينهم، مع الإبقاء على الذين كانوا يملكون الموقف المنحاز، ووجهة النظر الداعمة، ولم يكن عددهم آنذاك قليلا في ظلّ رواج الأفكار العنصرية والمعادية السامية على مستوى الشعوب، وبين إدارات الصحف الغربية عامة. ففي مقابلةٍ أجرتها مراسلةُ "نيويورك تايمز"، آن ماك كورميك، (9 يوليو/ تموز 1933)، مع هتلر الذي تصفه بأنه "رجل بسيط وخجول"، نراها تطرح عليه بكل بساطة السؤال: "بشأن اليهود في هذه المرحلة، كيف تقيّم الجوانب الإيجابية والسلبية لسياستك المعادية للسامية؟". جدير بالذكر أيضا أن المراسلين الذين سُمح لهم بالبقاء في ألمانيا كانوا يعتمدون المسؤولين النازيين مصادرَ لمعلوماتهم، من أمثال وزير الدعاية السياسية النازية، جوزف غوبلز، والمنظّر السياسي النازي، ألفريد روزنبرغ، والماريشال هرمان غورينغ مؤسس الجهاز الألماني السرّي (غستابو).
إلى جانب معاداة السامية، كانت معاداة الشيوعية في الثلاثينيات تدفع رؤساء التحرير إلى التغاضي عن الشهادات المخيفة التي كانت تصل من الشارع الألماني، واعتبار اضطهاد هتلر اليهود "من معالم اللعبة التي كانت تدور، على خلفية خطر وقوع حرب أوروبية". هكذا كانت العناوين التي تحتل الصفحات الأولى في أكشاك الجرائد، تحكي عن حملات موسوليني الاستعمارية والحرب الأهلية الإسبانية.
ومع ذلك، وُجدت أقلام حرّة قليلة، من أمثال الأميركية دوروثي طومسون، صاحبة بورتريه قاسٍ كتبته عن الفوهرر، قبل أن يتم طردها من برلين، والبريطاني نورمان إبّوت، والفرنسي جورج دوهامل الذي كتب في الصفحة الأولى من جريدة لوفيغارو: "سيد هتلر، ما الذي تنوي فعله باليهود؟"، وأيضا وخصوصا الأميركي إدغار ماورير، مراسل صحيفة شيكاغو دايلي نيوز في برلين منذ العام 1923، الذي وضع كتابا دوّن فيه سرّيا جرائم النازية منذ بداياتها، وعدم تعرّض مرتكبيها لأي عقاب، إلى أن تمّ ترحيله بعد سبعة أشهر من نشره الكتاب، من بلاد وصفها "مصحّة للمجانين". ولا ننسى صحيفتي لومانيتي الشيوعية ولاكروا المسيحية، اللتين راحتا تنشران مقالاتٍ تفضح حجم الإجرام النازيّ الكارثي، من دون أن تلقيا لدى القرّاء صدىً فعليا. للأسف.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"