تونس ومخاطر النكوص الديموقراطي

تونس ومخاطر النكوص الديموقراطي

02 ديسمبر 2018
+ الخط -
تتسارع الأحداث في تونس، إلى حد أننا لم نعد قادرين على متابعتها، فضلا عن فهم دلالاتها، خصوصا وأن عديدا منها بلا حد أدنى من المعقولية والمنطق، ليتيسر فكّ شيفرتها، غير أن مؤشرات أولية تقول إن البلاد قد تنزلق تدريجيا في منعطفٍ خطير، قد يهدّد مسار الانتقال الديموقراطي، الهشّ أصلا، إذا لم تتم المسارعة إلى وضع حد للانهيار.
لم يكن إنهاء التوافق بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، وتحديدا بين الشيخين، رئيس الجمهورية الباجي السبسي وزعيم الحركة راشد الغنوشي، مجرّد افتراق بين رفيقين لم يقدرا على إكمال المشوار معا، بل كان إيذانا باندلاع صراعٍ عنيفٍ بين رئاسة الجمهورية وحزب نداء تونس من جهة وحركة النهضة من جهة ثانية. وتنذر التصريحات والتصريحات المضادة الصادرة عن الفريقين بأن القادم غير محمود، إذا لم يتحلّ الجميع بالحكمة.
هناك من اعتقدوا أن حصول حكومة يوسف الشاهد، بعد التعديل عليها أخيرا، على موافقة مجلس نواب الشعب، سيطوي صفحة الأزمة الحادّة التي تعرفها تونس، بل حصل خلاف ذلك، إذ أشعل هذا الأمر لدى الرئيس السبسي مشاعر الإهانة، ويبدو أنه أعرب عنها لدى دوائره المقرّبة، ولم يخفِ حرصه على الانتقام لشرفه السياسي، فقد سارعت رئاسة الجمهورية، بعد أيام، إلى استقبال هيئة الدفاع عن الشهيدين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهي التي تتهم حركة النهضة بإنشاء جهاز خاص، والتورّط في الاغتيالات السياسية. واستقبلت شخصياتٍ معاديةً للحركة، منها رجل الأعمال المصري، نجيب سويرس، الذي ساهم في تمويل حملة إسقاط الرئيس المصري، محمد مرسي. واستقبلت ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مناخٍ من الاحتجاج العارم. وتنتشر أخبارٌ تبدو وثيقةً عن استقبال الليبي، خليفة حفتر، ووزير خارجية سورية، وليد المعلم، بعد أيام.
لم تحمل هذه الشخصيات في زياراتها تونس مشاريع اقتصادية، وإنما هي منخرطة في محاصرة "النهضة" رمزيا. وتشابه دعوة خصوم الحركة لزيارة البيت ضيوفا مبجلين ما يفعله الزوج عندما يعاقب زوجته باستدعاء من تكره في دارها. هكذا غدت السياسة، في أحيانٍ كثيرة، تدار في البيوت والمقاهي بأمزجة العاطلين والمهرّبين وبائعي الممنوعات.
ليس معلوما إلى أين سيذهب الرئيس السبسي في مجازفاته، وهو الذي لم يُخف رغبته في الثأر 
لكرامته التي قد تصل إلى التشفّي من "النهضة" التي يعتبر أنها خذلته في معركته مع رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وأهانت نجله، حافظ السبسي. ليس معلوما ما دار في اللقاءات بين الغنوشي والرئيس السبسي في الأسابيع التي سبقت إعلان نهاية التوافق، لكن تسريباتٍ ذكرت أنهما اختلفا عندما تمسّكت "النهضة" بالشاهد رئيسا للحكومة، وهي تعلم أن الرئيس لم يعد قادرا على تحمّله. ويبدو أن السبسي أبلغ مقرّبين منه أنه يعدّ حملة على "النهضة"، ولن يتركها تصل إلى انتخابات 2014 إلا وهي منهكة مثخنة، مدّعيا في ذلك أنه يمتلك ملفات تجعلها تغرق في الوحل. يستحضر ملفات التسفير والاغتيالات وغيرهما، وهي ملفاتٌ تؤكد الحركة أنها محض افتراء، سارع إليه خصومها، ممن عجزوا عن منافستها انتخابيا.
تثير تصريحات رئيس الجمهورية، أخيرا، عقب انعقاد مجلس الأمن القومي الخميس الفارط، عدة مخاوف، فقد اتهم حركة النهضة بأنها تتوعده في بياناتها أخيرا، وأن هذا الأمر سيكون من مشمولات القضاء. وقد نظر المجلس، في اجتماعه، في مسائل عدة، في مقدمها ما يعرف ب "الجهاز السري لحركة النهضة". وتفيد تسريباتٌ انتشرت لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الوطني بأن الرئيس حرص، في أثناء الاجتماع، على تشكيل لجنةٍ، يرأسها أحد المستقلين، للنظر في تقرير زوّدته به هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي. ويبدو أن رئيس الحكومة عارض بشدةٍ ما اقترحه رئيس الجمهورية، وأصرّ على أن الأمر من اختصاص القضاء. وعلى أن دعوة الرئيس إلى تعديل الدستور لا تستقيم، ما دامت المحكمة الدستورية غير قائمة، ولذلك يقترح استكمال بناء المؤسسات الدستورية، وإرجاء التعديلات التي يرجو الرئيس منها تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، بعد أن جرّب مرارة محدوديتها.
تتسارع الأمور، وهي منذرةٌ بتصادمٍ حاد، وتفيد بعض مؤشراتها بأنها ستكون وخيمة. لن تكون المسألة بين حزبين، وإنما بين شطري مجتمع تقريبا، فالدعوات المنادية بحل حركة النهضة لا تعني إيقاف حزبٍ عن العمل، على نحو ما تقتضيه القوانين لو ثبتت التهم الموجهة للحركة من خصومها، لكنها تعني محو مكوّن سياسي واجتماعي، ما سيجعل تونس، لا قدّر الله، تقتحم مرحلةً من النكوص الديموقراطي الخطير. حدث هذا في أكثر من حالة، ولعل جديدها في البرازيل. هل يعني ذلك أنه لا ديموقراطية من دون حركة النهضة، ردّا على دعوة لا ديموقراطية بوجودها؟
يبدو أن لا أحد يرغب في الوساطة، لأن الجميع يرغب في مشاهدة لعبةٍ قاتلة، ولم تعد عبارة "فخار يكسّر بعضه بعضا" مجرّد شعار تضعه الكتائب الفيسبوكية لهذا الفريق أو ذاك. ... لا تعي النخب التونسية، أحيانا، أنها صنعت معجزةً، وأن القدر يحمّلها مسؤولية الحفاظ على هذه المعجزة. ولكن ربما تحمي المعجزات بعضُها بعضا؟
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.