هل انتهت يوتوبيا الاستقلال الوطني؟

هل انتهت يوتوبيا الاستقلال الوطني؟

08 نوفمبر 2018

في مركز تصويت للاستفتاء في كاليدونيا (4/11/2018/فرانس برس)

+ الخط -
شهدت كاليدونيا الجديدة الأحد الماضي استفتاءً بشأن استقلالها أو بقائها تحت السيادة الفرنسية، وحسمه المؤيدون لبقاء الأرخبيل تحت كنف فرنسا لصالحهم بنسبة ناهزت 60%. وجاء ذلك تنفيذا لاتفاق وُقع سنة 1998 بين السكان الأصليين المطالبين بالاستقلال والمنحدرين من أصول فرنسية، على خلفية أعمال عنفٍ بينهما، شهدتها البلاد نهاية الثمانينات.
تطرح نتيجة هذا الاستفتاء أسئلة كثيرة ودالة، تتداخل فيها قضايا الهوية والاقتصاد والتنمية والدولة الوطنية، وهي أسئلةٌ تصب في سؤال مركزي: هل انتهت يوتوبيا الاستقلال الوطني إلى غير رجعة؟ شكّل الاستقلال الوطني إحدى اليوتوبيات الكبرى التي غذّت المخيلة السياسية الحديثة والمعاصرة، ولم يقتصر تأثيرها الجارف على شعب دون آخر، سيما في لحظات المد التحرّري المعادي للاستعمار. كما ظل حضورُها دالّا ورمزيا في وثائق حركات التحرّر، بمختلف أطيافها. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، لم تتوقف هذه اليوتوبيا عن تغذية معارك النضال السلمي والمسلح ضد الاستعمار، ضمن أفق يتوخّى إيجاد كيانيةٍ سياسيةٍ وثقافية ووطنية مستقلة، على الرغم من أنه في أحيانٍ كثيرة لم تنعدم القواسمُ المشتركة مع هذا الاستعمار، كما الشأن بالنسبة لمعظم بلدان أميركا اللاتينية التي لم يمنعها التقارب اللغوي والثقافي مع إسبانيا من خوض حروبٍ تحريرية للاستقلال الكامل عنها.
وفي منتصف القرن العشرين، عرفت هذه اليوتوبيا زخما غير مسبوق، بعد اتساع رقعة الاستعمار وإصرار القوى الاستعمارية التقليدية على الاحتفاظ بمستعمراتها في تحدٍّ سافرٍ لإرادة الشعوب في التحرّر. وقد مثّل الاستقلال الوطني أحد العناوين البارزة للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، في ضوء تزايد البلدان التي نالت استقلالها منذ نهاية الأربعينات إلى منتصف السبعينات.
ما الذي جعل خيار بقاء كاليدونيا الجديدة ضمن السيادة الفرنسية يحوز الأغلبية في الاستفتاء، على الرغم من أن هناك بعدا إثنيا وثقافيا يتخلّل خطاب الانفصاليين في هذا الأرخبيل جنوب غرب المحيط الهادئ؟ لِم لمْ يحسم الانفصاليون المعركة لصالحهم، علما أن المنحدرين من أصول فرنسية ليسوا أغلبية السكان؟ الجواب يكمن في أزمة الدولة الوطنية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن الفائت، وانتهت إلى الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في معظم البلدان التي كانت تحت سيطرة الاستعمار الغربي.
أخفقت النخب التي تسلمت السلطة في إقامة أنظمة ديمقراطية منتخبة، وإنجاز مشاريع تنموية حقيقية، تفضي إلى توزيع عادل للثروة من دون إقصاء أو تمييز. وتحولت، في سنوات قليلة، إلى أنظمة قمعية وفاسدة وريعية، لم تتورّع عن التنكيل بمعارضيها. ومع أن كثيرا من هذه الأنظمة بنت شرعيتها على مبادئ اليسار وأفكاره، إلا أن ذلك كان، في أحيانٍ كثيرة، واجهة دعائية تخفي فسادا سياسيا واقتصاديا مستشريا. وتبنّت كثير من هذه الأنظمة برامج اقتصادية تخدم مصالح القوى المتحكّمة في الاقتصاد الدولي. ورهنت، بالتالي، مستقبل أجيال بكاملها بسبب تفاقم المديونية، وتضاؤل فرص التنمية. كما أدى الصراع على السلطة في كثير من بلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية إلى حروب أهلية مدمرة، كانت كلفتها البشرية والاقتصادية باهظة جدا.
ولا شك أن التجلي المأساوي لانهيار حلم المشروع الوطني المستقل تفشّي الهجرة السرية، وتصاعد وتيرتها في اتجاه البلدان الغربية، وتحوّلها ظاهرة عالمية، تختزل مساحة كبرى من معادلات القوة والنفوذ في العالم المعاصر.
قد نزعم أن كثيرين ممن صوّتوا في كاليدونيا الجديدة للبقاء تحت سيادة فرنسا، لا سيما بين أوساط السكان المحليين، لم يغب عن أذهانهم مآل شعوبٍ عاشت سياقاتٍ مشابهة، واختارت الاستقلال، عن فرنسا أو غيرها، وانتهت إلى حافّة الإفلاس الشامل، فالبقاء تحت سيادة فرنسا، من وجهة نظرهم، يضمن الحد الأدنى من الحقوق الأساسية في العمل والصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وهي حقوقٌ يغامر ملايينُ المهاجرين في العالم بأرواحهم في سبيل نيلها.
أصبحت الشعوب المعاصرة تجد صعوبةً بالغة في اعتبار الاستقلال الوطني مجرد فكرة مثالية، تُستدعى للتمجيد في المناسبات والأعياد الوطنية، من دون ربطها بتطلعاتها المشروعة نحو حياة أكثر عدلا وكرامة وأمنا.