في اليأس اللبناني، وربما العربي أيضاً

في اليأس اللبناني، وربما العربي أيضاً

08 نوفمبر 2018
+ الخط -
جرّب اللبنانيون كل السُبُل المسمّاة "تاريخية". خاضوا الحرب الأهلية المديدة، استعانوا بقوى إقليمية وارتهنوا لها، جرّبوا الشخصيات المنضوية تحت مظلتها، "انتصروا" على إسرائيل، وأخيرا سجلوا "نصراً" آخر بانتخابهم رئيسا للجمهورية ونواباً إلى البرلمان. في غير التاريخي من السُبُل، كانت الشطارة حليفتهم مقاومة حقيقية لغلاظة العيش. وهاجروا، أو بقوا يحلمون بهجرةٍ، باتت مستحيلة؛ بعضهم يتسلّل الآن إلى قوارب اللجوء إلى جانب منكوبين آخرين من سوريين وفلسطينيين.
جرّب اللبنايون كل شيء، وارتضوا تقلّبات حياتهم، والمجاهل التي تعتمر مستقبلهم، وكل مرة كانوا يخرجون من محنةٍ، ينكبون على مغازلة "الفينيق" الذي بداخلهم، ذاك المخلوق الأسطوري، الرامز إلى سهولة الإنبعاث من جديد، إلى العودة إلى الحياة، مهما كانت الخسائر والتضحيات، ومهما أصابَهم من حزن وعجز وإحباط. فقد أُصِيبوا بحكمة "الأمر الواقع"، الموازي للقدر. وبذلك، لم يعودوا قادرين على تخيّل عالم آخر، على الرغم من شرودهم بالعوالم.
لكنهم اليوم، ربما لنفاد مخيلتهم المعذّبة، يقفون أمام الوقت، ولا يتجرأون على سؤال أنفسهم عن المستقبل. فهذا الأخير، أي المستقبل، هو الرفيق الموازي للأمل؛ وهو، فوق ذلك، يعرف عنك كل ما يلزمه، يخبّئه في ثنايا الزمن المقبل، وكلها مضطربة، غامضة، تضجّ بالشؤم والنحس 
والفقر والفوضى، ومعهم كلهم، الدمار والموت؛ فيما أنتَ تجهله، ذاك المستقبل، لا تعرف عنه سوى تنبؤاته، مقدّماته السوداء. واذا كنتَ ترى أن طريقه غير سالك، فكيف يمكن لك أن تتصوّره، أن تخطّط له، أو تتمنّى تحقيقه كشيء من رغباتك أو مصلحتك؟ أنت عالقٌ في الوقت: فهذا الحاضر الذي تعيشه الآن، ما معناه، بعد أن يمرّ عليك ويصبح ماضياً، وأنت العالم أن الاثنين، أي الحاضر اليوم، والقادم من المستقبل... الاثنين يغمرهما الفراغ. الحاضر بصفته توالي الوقت، عندما لا يندفع نحو رغبة أو غرض أو مشروع أو فكرة، يصبح في هذه الحالة مجرد هباء منثور، وقت منذور للحرق. سعادته المؤقتة، عندما يكون معفىً من المصيبة أو الكارثة أو الموت، أو عندما يُطلق الضحكات المجلْجلة ترويضاً لهذا الوقت. وبعد أن يمرّ هذا الوقت، يتحوّل ذكرياتٍ فارغة من الألوان، والعاطفة والجمال. هكذا تختلط الأوقات، وتتحول كتلة ثقيلة على التحمّل، تحتاج جرعةً عاليةً من أحلام اليقظة، لكي تمرّر بعضها، لكي يتحول الحاضر إلى ماضٍ قريب بسلاسة، ومن دون مخاض. حياة من دون أمل، أي من دون مستقبل، أي من دون معنى، غير تلك الأحلام.
ولكن من أين نغرف الحلم؟ أين نجد المادة الصالحة للتحايل على اللامعنى، وحماية النفس من مخالب اليأس العميم؟ من مجرد التماعةٍ يشعلها الماضي، الذي هو دائما أجمل من الحاضر. إنه الحنين. هو الحنين الذي يصفه محمود درويش "الحنين نُدبةٌ في القلب وبصمةُ بلدٍ على جسد". إنه الحنين إلى بلد في داخلك، ولكنه على خلاف وطن محمود درويش، الحنين الراهن للبنانيين هو لبلدٍ لم يهجاهروا منه، لم يُنفوا منه، لم يتركوه. ولا هو حنينٌ إلى وطنٍ تُغادره الحرب: كان الأمل في أثناء هذه الحرب، هو العودة إلى الوطن، في نهايتها، إلى ما كان عليه من هناء. ولكن الحرب انتهت، وانتهى معها المستقبل.
لا الخروج من الوطن، ولا انتهاء الحرب الأهلية، كانا يشتعلان بالحنين الذي نعرفه اليوم. كان حنيناً موسميا تثيره لحظات الإختلاء إلى النفس، أو مواد الشوق العديدة. حنينا بنّاء، يحيي الروح الضائعة، ويحميها من الفقدان. فتنبعث العزيمة من جديد، ويسير الوقت مترقّباً محطاته.
أما حنين اللبنانيين اليوم فهو مكلّل باليأس. يشبه الهستيريا. حنين هستيري: يتطلع صاحبُه الشقي إلى عالم مندثر، لا إلى وطن، هو قريبٌ منه بالجغرافيا، بعيدٌ عنه التاريخ. فعل الحنين 
يومي، بعبّر عنه اللبنانيون بشتّى الطُرق؛ بالكلام، بالقفشات المُعادة، بالأفعال والسلوكيات، وبما ينْضح عنهم من تهدّجٍ وهمسٍ وموجات. إنه حصنهم الحصين، المتبقي من أيام يتصوَّرون أنها كانت راغدة. حنين إلى الهواء، إلى الأواصر، إلى الإلفة، إلى الأماكن؛ مقارنات يومية مركّبة، باعثها اليأس، هي مقدّمات اللامعنى. فعل هستيري، وخرافي أيضاً، هو ذاك الحنين؛ يعلم حامله، أو يحدسُ، في مكان ما من ذاكرته، بأن هذا الحنين قد يكون مغشوشاً، مفبْركاً، بل كاذباً. وإنه، مثل مراهم الأوجاع، تكون لذّته هاربة، منفلتة، في غابة اليأس التي تغمره. لكنه يستمر، ولا يهمه أن يكون هزيلاً، المهم أن يستمر. ذلك أن الحنين فيه سعادة وحزن، أو سعادة بحزنٍ كهذا الذي يحمل معه هدية، هي المعنى.
مثلاً: في تحقيق استقصائي عن تلوّث مياه الشواطئ اللبنانية بمياه المجارير، من بين ملوّثات أخرى، ومنها شاطئ الرملة البيضاء (غرب بيروت) المجّاني، تسأل الصحافية سبّاحاً يحمل ابنه متوجهاً إلى البحر: "هل تعرف أن المياه التي تسبحان فيها هي مياه مجارير؟ هل رأيتَ لونها الأسود؟". فيجيب الأب: "طبعاً أعرف. ولكن ماذا أفعل؟ ليس لديّ غير هذا الشاطئ الأسود. أم تريدينني أن أختبئ في البيت، أختنق فيه بالحرّ والضيق؟". هذا الشاطئ المجاني كانت السباحة فيه ممنوعةً قبل الحرب، بسبب خطورة التيارات المعتَملة فيه. وكانت السباحة المجانية متوفرةً في شواطئ أخرى، قريبة وبعيدة، وكلها مياهها نقية، أزرقها سماوي ساطع. أما اليوم.. فلا تتوقف لحظة وتيرة المقارنة، كأنها إدمان.