السعودية.. أمس واليوم وغداً

السعودية.. أمس واليوم وغداً

07 نوفمبر 2018
+ الخط -
ما زلت أشعر بالعرفان لملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، إذ أنقذني مرة من غضب رجال "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي كانت ذات حظوة ونفوذ. حدث ذلك في فترة إقامتي في الرياض في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الراحل، حيث كنت أكتب عمودا دوريا في صحيفة الشرق الأوسط، واستخدمت كلمة "آلهة" في معرض الحديث عن أساطير يونانية. وفي اليوم التالي لصدور عدد الصحيفة، راجع مكتبها في الرياض أنفارٌ من رجال الهيئة، محتجين على استعمال الكلمة المذكورة، معتبرين ذلك مساساً بالذات الإلهية، يستوجب العقاب الصارم، وطالبين معلومات عن الكاتب وهويته ومحل إقامته، ليتسنّى لهم إجراء اللازم!
حاول مدير المكتب، الزميل حسان البنيان، إقناعهم بعدم توفر سوء النية، وبأن استخدام الكلمة جاء ضمن سياق معين، إلا أنهم لم يقتنعوا بتبريراته، وخرجوا غاضبين، وربما فكروا بطريق آخر يسلكونه لمحاسبة الكاتب. وتفتق عقل البنيان عن مبادرةٍ ذكيةٍ لتلافي ما قد يحدث من مضاعفات، إذ أوصل خبر ما جرى إلى أمير منطقة الرياض (الملك حاليا)، سلمان بن عبد العزيز، والذي أمر بتأنيب القائمين بهذا الفعل، وإبلاغهم بأنه ليس من واجباتهم التدخل في شؤون الصحف.
كان هذا زمان الثمانينيات الحرج والصعب، حيث المنطقة تمور شررا على وقع حرب العراق وإيران، وما كانت تفرزه من تداعيات، وقد بدت المملكة، في حينه، كأنها تسير على حبل مشدود. كان أمراء شبّانٌ قد اقتربوا من الأفكار التحديثية، بشكل أو بآخر، أو قل إنها اقتربت 
منهم، على الرغم من البيئة المتزمتة حد النخاع التي نشأوا فيها، واستجدّت لدى بعضهم قناعاتٌ غير التي كان عليها شيوخهم. وكنت أسمع، وأنا في الرياض، عن إعجاب بعضهم بالفكرة القومية وبتجربة جمال عبد الناصر، أو بشخصية صدّام حسين، وبعضهم يريد إصلاحات ليبرالية. وقد ترافق ذلك مع عودة طلبةٍ كانوا مبعوثين للدراسة في بلاد الغرب، حاملين بعض ما رأوه وعاشوه أو سمعوا به هناك. وسمح الظرف آنذاك، وتحت ضغط عوامل متعدّدة، بإطلاق سراح عدد من سجناء الرأي ومن معتنقي الأفكار اليسارية، كانوا قد اعتقلوا، في فتراتٍ سابقة. وبعضهم نُسّب للعمل في مؤسسات صحافية خاضعة للدولة، وبدأوا يكتبون في صحفها. وسجلت للأمير عبدالله (الملك فيما بعد) رعايته كاتبا سوريا معروفا، تعرّف إليه في زيارة سابقة إلى الخارج، واستقدمه ليكتب في إحدى صحفها. ويذكر المهتمون بأمور الفكر والثقافة بالخير مبادرة المملكة، في حينه، باستضافة المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، وتفريغه لإنجاز العمل الموسوعي الضخم والمتميز "اليهود واليهودية والصهيونية".
عدّت تلك الفترة ذهبيةً مبشّرة بربيع، على الطريقة السعودية التي تعني قليلا من الحرية المحسوبة، بيد أن الفترة لم تدم طويلا، إذ انكفأت، بفعل ضغوط مراكز قوى ذات حوْلٍ وطول. فاتسعت الخطوط الحمر في الكتابة والنشر، وأخذ التضييق مداه على كل من يشمّ منه مطالبةً بالتغيير أو الإصلاح. وهرب إلى الخارج ناشطون، بينهم أمراء شبابٌ، شعروا أن سيف الحاكم قد يقترب منهم. وترشّحت، بين حين وحين، محاولات تهدئة واحتواء، حسبها بعضُهم نوعا من الحكمة والحصافة. واعتبرها بعض آخر انعكاسا لخوف الحاكم وقلقه مما قد يحدث وتصعُب معالجته، وقابلها ناشطون عديدون بالصمت، تجنّبا لعواقب قد لا يحتملونها، وقد أصبحت كل النشاطات المعارضة للسلطة تُدمغ بوصمة "الإرهاب"، ما يعطي المبرّر لقمعها بأقسى الأساليب، وأكثرها وحشية.
وحيث لا يستقر الحال على منوال واحد، فقد استجد ما أعطى جرعة أمل في أن مملكة آل سعود توشك أن تدخل العصر على وقع خطوات محمد بن سلمان، وصعوده السريع إلى ولاية العهد في لحظة دراماتيكية فارقة، لكن الشاب الثلاثيني المتعجّل حمل معه مقادير من الرعونة والطيش، جعلته يفقد البوصلة التي تُعينه على تحديد المسار، ولم يستوعب تلك اللحظة الفارقة، أرادها لحظةً فاصلة، قاطعةً مع ما سبقها وما قد يلحق بها، فأقدم على سلسلة من المغامرات. اصطبغ فصل جديد فيها بدم الصحافي الناشط، جمال خاشقجي، في واقعةٍ وحشيةٍ حملت علامة "سبق الإصرار والترصد"، وأحدثت أزمة مركبة متحرّكة في كل الاتجاهات، أخطر ما فيها انعكاساتها المتوقعة على سلطة العائلة المالكة نفسها. وسوف يقرأ أحفادنا ما سيكتبه مؤرخون إن عملية "خنق" كاتب وصحافي سعودي كانت فاصلا بين عهدين، وقد رسمت "سيناريوهات" ساخنة اصطبغت بلون الدم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"