البحث عن نظام عالمي جديد

البحث عن نظام عالمي جديد

05 نوفمبر 2018

تلقت العملة التركية هجمات بعد تغير النظام السياسي(4/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
من المهم فهم الفترة الزمنية التي نعيشها من النواحي الاقتصادية والسياسية والإدارية. ولهذا يجب رؤية الصورة مكتملة. وانطلاقا من هذه الصورة، نحن الأتراك مجبرون على التفكير ماذا يمكن أن نفعل، فالعالم اليوم لا يشهد صراعاتٍ سياسيةً أو اقتصاديةً وحسب. التوترات والكيانات المنقلبة لا تُرى فقط في منطقة واحدة من العالم، إذ يعيش العالم، في كل أنحائه، المتطورة منها والنامية، اهتزازات مدمّرة للكيانات المنقلبة، ونشهد تطور أزمات في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وحتى في البلدان الأوروبية. 
إننا نمر الآن في زمنٍ، يتم فيه إنشاء نظام جديد في العالم من الناحية الاقتصادية، إضافة إلى السياسة، وحتى البُنى الاجتماعية. ومن المهم جدا فهم مجرى الأحداث واحدا واحدا، لكن أهل المعرفة والحكمة عليهم مسؤولية كبيرة، تتمثل في "رؤية الصورة الكبيرة"، كأنها مكونة من مئات قطع البازل (تجميع الصور). وبدلا من التلهّي بتجميع قطع الصور، يجب رؤية الصورة الكبيرة، بوضع تلك القطع مكانها، لأنهم مجبرون على فهم ما يجري في العالم بأفضل شكل ممكن. وهذا ضروري من أجل مستقبلنا، ومستقبل أطفالنا، ومستقبل بلادنا، وكذلك من أجل مستقبل شعوب المنطقة، بتحديد الوجهة الصحيحة.
في الفترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، سيطر على العالم المحور الأوروبي، وقد حصلت في هذه الفترة توترات كبيرة، وإن شهدت انتهاء الحروب، إلا أن الدخان كان ما يزال متصاعدا من دمار الحروب. وعند هذه العتبة الحساسة، شهدت القارة الأوروبية ولادة إيديولوجيتين حادّتين، هما الفاشية والشيوعية، ما تسبب في ظهور العصبية في كل بلد أوروبي. واستحكمت نزعات قومية حادة، مثل القوميتين، الألمانية والفرنسية، وأدت هذه الأيديولوجيات الجامدة إلى السيطرة على النظام العالمي، وتشكيل محاور أساسية لمن يدير السياسات الاقتصادية العالمية.

ومما لا شك فيه، فإن السبب الطبيعي لهذه النتيجة هو الحرب التي، وإن انتهت نارها، فإنها غير منتهية فعلياً، لتظهر لنا مجدّدا على شكل الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى حصول دمار كبير ومقتل ملايين الناس، كما أنها أخرجت قوة جديدة مركزية، هي القوة المنتصرة في الحرب العالمية، الولايات المتحدة.
وبعد الحرب العالمية الثانية بـ 45 عاما، أي وصولا إلى عام 1990، كانت مرحلة ما سميت "الحرب الباردة"، وخلال فترتها، وإن لم تشهد حربا بالأسلحة، فإن كل مكان في العالم شهد استقطاباتٍ كثيرة وصراعات كبيرة. وكانت تركيا من بين الدول التي نالت نصيبها من هذه الصراعات. ومن المؤسف أننا نحن من بين الذين دفعوا فواتير باهظة لهذه الحرب، ففي الفترة ما قبل عام 1980، ونتيجة لصراع اليمين واليسار، قتل قرابة خمسة آلاف من أبناء البلاد من اليمين واليسار، ودفنوا تحت التراب، وهم في سن الشباب.
ومع انتهاء الحرب الباردة في عام 1990، جرت محاولات لإنشاء نظام جديد، فالاتحاد السوفييتي تفتت، وانتهى المعسكر الشرقي. ومن المؤسف أن العالم بات في نظام القطب الواحد، والمحاولات الأميركية لفرض نظام جديد بسيطرتها جعلت العالم يدفع تكاليف باهظة، فما بين عامي 1990 و2018 شهد العالم توتراتٍ جديدةً وصراعاتٍ واستقطاباتٍ متبادلة. وضمن هذا الإطار، من المؤسف أن البحث عن السلام العالمي، بعد التسعينيات، "وضع على الرف"، وقول هذا مناسب أكثر لهذه المرحلة.
وحالياً، نشهد، في النظام العالمي مرحلة باتت جميع المؤسسات والمنظمات فيها في وضع غير فعال، فبعد عام 1990 فقد نظام العالم الجديد، للأسف، بكامله جميع سحره، وباتت المؤسسات الدولية في النظام العالمي في حال غير قادرة معها على القيام بوظائفها، فانطلاقا من الأمم المتحدة، وصولا إلى البنك الدولي، كل جهة في حالة بحث عن خيارات جديدة.
أظهرت التوترات والصراعات في العالم الآن في المرحلة الجديدة أنواعاً جديدة من الصراع للإمبريالية الجديدة، ومن بين هذه "حروب الوكالة"، فبخصوص سورية عند بداية الأزمة، لفتّ الأنظار، بوصفي سياسيا، إلى حروب الوكالة فيها، ومن المحزن أن فهم أنواع هذه الحروب لا يمكّن من معرفة تكاليفها الكبيرة، إلا بعد أن يتم دفعها.
ماذا تعني حروب الوكالة؟ اختارت القوى والدول الكبرى، بالتعبير المجازي، عدم وضع أيديها في المياه الحارّة والباردة، وقرّرت خوض حروب الشرق الأوسط عبر قوى شريرة وفعالة من أجل تعزيز قدراتها بشكل أكبر، فمن يستطيع تفسير كيفية تشكّل تنظيم داعش الإرهابي، والذي استقر، خلال أشهر قليلة فقط من بنائه في الشرق الأوسط، كيف يمكن تفسير ذلك؟ فعشرات آلاف ممن لا يعرفون بعضهم بعضاً، وجاءوا من مختلف جهات العالم الأربع، كيف عملوا باحترافية عالية في تشكيل تنظيم إرهابي، استطاع السيطرة على مدن عراقية وسورية في أسابيع قليلة، من لا شيء ظهروا وانتشروا بشكل كبير، الهدف واضح جدا، فالهدف من إنشاء هذا التنظيم هو تغيير حدود كل من العراق وسورية، وتنظيم البنية العرقية من جديد فيهما.
ومن المواضيع التي يصعب تفسيرها أيضا، هم إخوتنا الأكراد في سورية الذين لم يكونوا ليحصلوا على حقوق المواطنة الأساسية، من دون أن يكونوا مواطنين تحت ظلم النظام سنوات طويلة. لديهم اليوم أثقل الأسلحة في العالم، بوضع تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي، التابع لحزب العمال الكردستاني، في تلك المنطقة. وكل هؤلاء أدوات في حروب الوكالة، والأدوات الشريرة هذه التي تُمسك بهم أيدي وكلائهم، أوجدهم هؤلاء الوكلاء، وتم حقنهم في جغرافية المنطقة. وإن نظرنا إلى هذه القضية من دون هذه التساؤلات، فإننا سنجهد كثيرا في الإجابة عن أسئلة من قبيل "ماذا حدث في الرقة يا ترى؟ ماذا حصل في منبج؟"، وسنغرق في التفاصيل من أجل الوصول إلى إجابة.
وبهدف زرع الحقد والكراهية والدموع بين شعوب الشرق الأوسط، استخدمت القوى الإرهابية وكلاء للقوى الكبرى، أدوات شر، والهدف من تطبيق هذه الخطة تغيير حدود الشرق الأوسط بشكل كامل تقريبا. وفي عالمنا الحالي الذي انفكّ السحر عنه، ظهر مصطلح آخر هو "حروب التجارة" التي تصاعدت لتصبح حروباً اقتصادية.

وفي كل هذه الظروف والشروط، يمكن القول، من الآن، إن "الحرب العالمية الثالثة"، بدأت بالفعل منذ زمن بعيد. وهي على عكس الحرب العالمية الثانية، ستبدأ اقتصادية، وبعدها ستتطور إلى مواجهة سياسية كما هو ظاهر، فمن جهة الصين، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا والهند واليابان، والاتحاد الأوروبي، وأيضا في مستويات أدنى ظهور الحروب التجارية أو الحروب الاقتصادية التي تتخذ لها مكانا في المرحلة الجديدة التي ندخلها. ومن المحزن أن هذه المرحلة ستلقي بتأثيراتها على تركيا، ويمكن رؤية ذلك من الآن.
كيف نفهم ذلك؟  الهجمات التي استهدفت "قيمة العملة" بدأت مباشرة بعد تغيير تركيا نظام الحكم فيها، أي منذ انتخابات 24 حزيران/ يونيو 2018، وهذا أكبر الدلائل، فالهجوم الاقتصادي الذي استهدف تركيا عبر قيمة العملة يقف خلفه، في واحدٍ من أبرز أسبابه، من يريد أن يجعل تركيا تعرف حدودها. وهذا للبلدان التي هي في مرحلة التطور، وخصوصا تركيا، هو تنبيه من أجل توضيح الصف الذي تقف فيه، ونحن مضطّرون لفهم ذلك تهديدا. ذلك أن بعض دوائر القرار في الولايات المتحدة الأميركية تريد توجيه رسالة، عبر العملية المنفذة بحق تركيا، بالقول حددي جهتك.. هل أنت معي أم لا؟.
ولهذا يجب، في المرحلة المقبلة، ألا ننسى أن تركيا ستتأثر وفق جيبوليتيكية الحروب التجارية. وعليه، يجب إنتاج سياساتنا وفق هذا المستقبل. وفي هذه المرحلة الجديدة بعد الاستقطاب الاقتصادي، تظهر مرحلة جديدة من الاستقطاب السياسي، تشهد توتراتٍ وصراعات عبر حروب القوة.
وفي العالم الذي فقد سحره، ما يقع علينا ليس زيادة التوترات والصراعات، بل الصراع من أجل تأسيس نظام نافذ في العالم، يستند إلى الحق والعدالة. ويجب الصراع من أجل عالم جديد مبنيٍّ على تقليل التوترات المصطنعة، وأن يحصل فيه جميع الناس على حقوقهم في الأرض بشكل كاف من حصة الأغنياء. وبنظرة على كل مشكلات المنطقة، وفق هذه النظرة الواعية، يمكن أن نرى الوجه القبيح لحروب التجارة والقوة..
لماذا نشهد في العالم هذا القدر من اللجوء؟ لماذا يهاجر سكان أفريقيا؟ لماذا يترك سكان آسيا قراهم ومدنهم مضطرين، ومجبرين على التوجه إلى الهجرة واللجوء للدول الغربية والدول المتطوّرة.
وبشأن هذه المشكلات، المشاكل العالمية والتي في المنطقة، يجب أن نرى الأسباب الأساسية، وأولها عدم العدالة في المقياس العالمي في توزيع الدخل، فنحن نعيش الآن في عالم فيه ما نسبته 0.7% (أقل حتى من 1%) يعني دائرة ضيقة تبلغ 0.7% تسيطر على 44% من ثروات العالم. وفي مقابل هذا، لا يملك 70% من سكان العالم سوى 3% من ثروات العالم، هذا العالم وهذه العدالة الغائبة، والتفريق، لم يشهدها تاريخ الإنسانية. وهذا التوزيع غير العادل في الدخل، لا يُحتمل للأسف.

وتبقى في عشرات السنوات المقبلة أكثر المشكلات الأساسية، في التوترات بين الشمال الغني والجنوب الفقير. ووفقا لهذا المسار، عندما يتم رسم خط الدول في الجزء الشمالي الغني من العالم، أي دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وآسيا، وبعض الدول الغنية الأخرى، تزداد غنى. وعندما يتم الاتجاه جنوبا تزداد فقرا. وفي مقابل هذا، فيما ينخفض عدد سكان الشمال، يزداد عدد سكان الجنوب الفقير باستمرار.
وهذا النمط من العالم لا يمكن العيش فيه، ذلك أن غياب العدالة في توزيع الدخل يدفع السكان الفقراء في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية إلى رفض هذا الظلم في العالم، بسبب عدم العيش بسلام وصحة، فلا يمكن أن ينتج عن هذا أي سلام.
وربما شهدنا جميعا تحوّل بحري إيجة والبحر المتوسط إلى مقبرة للاجئين، فالأفارقة يختفون مع ركوبهم مراكب غير آمنة. ويلخص مشهد العجز في وجه العراقي الذي فقد زوجته وأبناءه الخمسة في مراكب اللجوء عذاب الوجدان الذي لا يُنسى لهذا العصر.
وغياب العدالة المخيف في توزيع الدخل، وإن لم يكن هناك سبب آخر، مثل فتيل الديناميت المشتعل في أساس العالم. وعندما ينفجر، سيكون مصدر أكبر توتر يتسبب بتفجر العالم.
كما أن واحدا من أهم أسباب الصراع أيضا في المجتمعات يكمن في انعدام الديمقراطية. وأقرب مثالٍ عنه يقع قربنا في سورية التي تمزّقت، مع الأسف، ليس إلى قسم أو اثنين، بل إلى عشرات الأقسام، إذ إن المدن والبلدات والشعب كلهم تفتتوا.
من الصحيح أن أول أسباب الحرب الأهلية في سورية حرب الوكالة. ولكن قبل الحروب، كان النظام السوري في موضوع الكبت قد تجاوز الحدود الحساسة منذ زمن بعيد، ففي سورية لا توجد أحزاب، ولا تعدّد سياسيا، ولا أي تمثيل سياسي. عاشت سورية في ظل أنظمة استبدادية متسلطة، لم يستطع الناس في ظلها التنفس والتعبير عن أنفسهم، ومن دون تمكّنهم من المشاركة في أي قرارات سياسية واقتصادية. وإذا نظرنا إلى اليمن وليبيا، يمكن رؤية المراحل نفسها، إذ إن من أهم ما تسببه مشكلات العالم نقص الديمقراطية والصراع الداخلي.
وفي تركيا، فإن حماية وحدتنا داخل تنوعنا، بقبول الغنى الثقافي لهويتنا، برؤية أن حياة تركيا تنبع من وحدتنا. ولذلك سعينا بوضوح إلى تطوير ديمقراطيتنا أكثر، فالبلدان التي استقرت الديمقراطية فيها ليست مناسبةً لبيئة حروب الوكالات، فهذه الحروب وتعهداتها تتغذّى في وسط تغيب فيه الحقوق.
أما الموضوع الآخر فهو الاحتلال والتدخل الخارجي. ومثاله أفغانستان التي احتلها بداية الروس، ومن ثم الأميركيون، ولو لم يحصل هذا الاحتلال لما ظهر تنظيم طالبان، ولا تنظيم دولي إرهابي اسمه القاعدة، فمصدر الإرهاب في أفغانستان هو الاحتلال والتدخل الخارجي.
والأمر نفسه في الشرق الأوسط، لو لم يحصل هذا النوع من التدخل، لما وجدت الأرضية المناسبة للتنظيمات الإرهابية وحروب الوكالة، فلولا الاحتلال الأميركي للعراق، هل كان أهل كركوك سيشعرون بالعداوة تجاه بعضهم بعضاً؟ وهكذا، خصوصا في هذه الجغرافيا، بعد تسعينيات القرن الماضي وتعرّضها للاحتلال، ساهم ذلك في تأجيج الاختلافات الإثنية والمذهبية بين الشعوب، تحولوا معها إلى حالٍ من العداء. ومن المحزن أن يصل العرب والأتراك والأكراد الساكنون في كركوك منذ مئات السنين إلى حالة من العداء، ولم يكف ذلك. فعلى سبيل المثال، نجحوا في تقسيم التركمان إلى تركمان شيعة وتركمان سنة.
وإذا كنا نريد تطوير أفكار من أجل أن يعيش الناس في سلام، علينا التوقف عند المسائل الأساسية الثلاثة التالية، والتعمق في بحثها: كيف يمكن تحقيق العدالة في توزيع الدخل في العالم؟ كيف يمكن التغلب على غياب الديمقراطية، وكيف يمكن أن نحول دون الصراعات الداخلية؟ بصفتنا أبناء لهذه الجغرافيا، كيف يمكن إغلاق الأبواب ضد التدخلات الخارجية والاحتلالات؟
في هذا العالم، وخصوصا في منطقتنا، في مرحلة إعادة البناء، نحن مضطرّون لإيجاد الحلول الخاصة بشعوب المنطقة، انطلاقا من التجربة التركية وأخذ الإلهام من تركيا. وعلى النقيض من هذا، يمر التاريخ، والتطورات تتلاشى، ونحن نبقى ننظر إليهما كمن يراقب انسياب الماء. ونتيجة ذلك، للأسف، سيكون أبناؤنا، وحتى أحفادنا، محكومين بغياب العدالة في العالم، وسيدفع المجتمع ثمن ذلك غاليا.

ولا يجب أن تسمح هذه المواضيع التي نناقشها بتشكل لوحة متشائمة أمامنا. على العكس، الفترات التي تشهد تهديدات كبرى هي نفسها التي تظهر فرصا وإمكانات كبيرة أيضا. ولدينا إمكانيات كبيرة من مختلف الزوايا. ولكن، بشكل خاص، في موضوع إعادة هيكلة الاقتصاد والسياسة في العالم، أود التنبيه إلى ثلاث نقاط أساسية:
حقيقة الحاجة إلى "مهندس جديد لاقتصاد العالم". .. حاليا، يعمل من يمتلكون الأموال في أيديهم، على إجبار القطاع الخاص في البلاد، والأنظمة السياسية عبر المصارف المركزية، على الارتباط بديون قوية جدا، فأميركا التي هي الفائز في الحرب العالمية الثانية حولت احتياطيات أموال الحرب إلى حالة من الارتباط بعملتها الوطنية، فحاليا تتم 65% من تجارة العالم بالدولار.
ماذا يعني احتياطي المال؟ كان هناك، في الفترات السابقة، مقابل من الذهب للأموال، فيما حاليا هي قطع من الورق، لا مقابل لها من الذهب. ويمكن شرح ذلك بالمثال التالي: من يقف خلف الآلة يضع الأوراق، ويستخدم الأوراق والعلامات المائية، يكتب فوقها مائة دولار، ولكن في الواقع ما قيمة ذلك المال؟ 35 سنتا فقط.. وبقبوله هذه الشروط، يدخل العالم في بنية مالية أكثر صعوبة. ولكن من أجل أن إنقاذ الجميع من هذا المأزق، أقول إننا في عملية بحث عن ذلك. ولهذا، فإن الفرص والإمكانيات موجودة.
سنعمل على بناء نظام مالي جديد في العالم. وقد ذكر رئيس بلادنا، رجب طيب أردوغان، عنصرين في هذا الخصوص. الأول منها مرتبط بالتعامل بالدولار في العالم. وللتخلص من الارتباط بالدولار يتوجب التعامل بين الجميع بالعملات الوطنية في التعاملات التجارية.
وعلى الروس والصينيين والهنود والأتراك والإيرانيين والجميع التعامل مع بعضهم بعملاتهم المحلية. ولندفع نحن ديوننا للروس بالروبل، وليدفعوا هم ديونهم بالليرة التركية. وبهذا، يقل الارتباط بالدولار في العالم، ويخرج الدولار من كونه احتياطيا ماليا. وبذلك نؤسّس لبنية مالية جديدة في العالم، ونبدأ عملية التأسيس والتموضع.
وبهذا، مع البنية المالية الجديدة، يعاد النظر مجدّدا في المؤسسات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات مثلها. وربما يطرح السؤال: هل يطبق الأميركيون القوانين التي تفرضها منظمة التجارة العالمية على دول كثيرة؟ الرئيس الأميركي يقول في ليلة واحدة "أنا رفعت الضريبة الجمركية بهذا القدر". إذا أين منظمة التجارة العالمية؟ أين القوانين الليبرالية في موضوع الضرائب في العالم؟ وصلنا إلى مرحلة إعادة النظر في كل هذه الأمور.
المقترح الثاني الذي طرحه رئيسنا أردوغان وحدة العملة المستندة إلى الذهب، فمعنى هذا الانتقال إلى نظام مالي يعتمد على الذهب، إنه إعادة النظر في موضوع الاحتياطي المالي، يعني أنه إعادة تقييم اتفاقية بريتون وودز، فالنظام المالي العالمي، عبر إعادة تقييمه، يعني إنشاءه. وبالطبع، ليست هذه الأمور، ربما اليوم وغدا، سهلة لتحصل، ولكن بإذن الله فإن أبناءنا سيرون عالما كهذا. ولكن ثمّة من يحاول جرّ تركيا إلى إجبارها لتبقى محتاجةً لصندوق النقد الدولي. وليس هذا لأن صندوق النقد الدولي يهدف إلى تصحيح الأوضاع في البلاد، بل لأنها مؤسسة دولية أسّست لتحول البلاد التي تعاني من وضعٍ صعبٍ لتلقي أوامر سياسية، وإلا فإن صندوق النقد الدولي ليس مصرفا يقيم العلاقة وفق ديونٍ تمنح بالقروض والأموال، معروفٌ أنه مؤسّسة للوصفات السياسية، وليس للوصفات الاقتصادية، فالجهات المسيطرة على العالم أسّست هذه المؤسسة، لتستمر في تسلطها.
وسيأتي يوم نرى فيه أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يفقدان وظائفهما السابقة، ونحن مضطرّون لبناء نظام مالي جديد، ونعلم أن الشبان القادمين من تركيا سيقدّمون أفكارا للحل في العالم الجديد الذي فقد سحره.
بالإضافة إلى التغيير في الأعمال المالية، أمامنا مساحةٌ لفرصةٍ أخرى، وهي التقنيات الحديثة. ففي الفترات السابقة، كان نصر الدول المتطورة علينا في تركيا بسبب التقنيات الحديثة التي تمتلكها، فهذه الدول تعمل على إرسال التقنيات المتعفنة القديمة إلى أسواق الدول التي في طور التطور باسم "نقل التكنولوجيا".
ومن المؤسف أن تاريخ تركيا التقني لم يُكتب بكامل تفاصيله. ومن الضروري أن تعكف الجامعات على هذا الموضوع. مرحلة التحول إلى الصناعة في تركيا، ومرحلة الخيانة. ففي عام 1940، صنع نوري دميرآغ طائرة في تركيا، لكن الأطراف الخائنة المظلمة عملت
سوية، ومنعت بيع طائرة نوري دميرآغ لخارج البلاد، وعملوا على إغلاق مصنعه. كما أن شركة توساش، وهي شركة صناعة الطائرات التركية، تباحثت، في عام 1978، كشركة حكومية مع شركة إيطالية، من أجل التفاهم بشأن صناعة الطائرات، لكن رسالة وصلت من بؤر الظلام رفعت الاتفاق عن الطاولة. وحديثا جدا، تمكّنت تركيا، بعد فترة طويلة من تأخيرها، من الوصول إلى إمكانية صنع طائراتها بإمكانياتها الذاتية. وقد شارك آلاف، أخيرا، في مهرجان التكنولوجيا "تكنو فيست" في إسطنبول، من خلال معرض كبير استضافه مطار إسطنبول الثالث، وعرضت تركيا فيه ما تنتجه ذاتيا من طائرات بدون طيار، والمروحيات، والمنتجات القيمة في مجال الصناعات الدفاعية. ولهذا كان المهرجان مهمّاً لإظهار المدى الذي وصلت إليه تركيا تقنيا. وهي تمنح إمكانات كبيرة لنا، دولة في مرحلة التطور، وصلت إلى هذا المستوى من التقنيات العالية.
دعونا نفكّر في هذا بعدد من الماركات. أنشـأ نظام التشغيل لينوكس عضو هيئة تدريس في جامعة هلسنكي، مع مجموعة من طلابه، وفي فترة قصيرة تحول إلى ماركة عالمية. وخرجت ماركات عالمية، مثل غوغل وفيسبوك وآبل، كتقنيات عالية من الجامعات. وفي أيامنا هذه، تحولت هذه المشاريع التي بدأت بأبحاث جامعية إلى ماركات عالمية، والمعلوم أن الجامعات هي مركز تطور التكنولوجيا في الدول.
كما أن أقطاب التكنولوجيا، وحتى أقطاب التواصل الاجتماعي حاليا، كما هي الجامعات، يجب أن يكونوا في مركز الحياة. علينا جعل الجامعات أماكن أساسية لتطوير التقنيات الحديثة. وفي الإنتاج والتمويل والإدارة، يجب أن نوفر مخرجا بمحور جامعي، لأن البلدان التي ستعمل على توفير ذلك ستكون هي التي ستدير العالم، فالثورتان الصناعيتان، الثانية والثالثة، واللتين جرى إبعادهما عنا، بشكل ما، تركناهما خلفنا. ولكننا لن نخطئ الثورة الصناعية الرابعة، وخصوصا في جو المنافسة بين الدول المتطورة في ميدان التقنيات العالية، إذ نسعى إلى أن نجعل تركيا بلداً كبيراً في هذا المجال.
ومن الفرص التي أمامنا، وواحدة من أهمها، تجديد الميكانيزمات السياسية في العالم، فيجب إعادة بناء الآليات السياسية في النظام العالمي، فالبنية السياسية العالمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة التي كلفت بعد الحرب العالمية الثانية بحل المشكلات، لم تعد قادرة على حمل عالم اليوم. ولهذا نقول "العالم أكبر من خمس". ومعنى هذا الاعتراض كبير جدا.
ومؤسفٌ أن الأمم المتحدة باتت في يد الدول المستحكمة بعد الحرب العالمية الثانية، منشئة عالما وفق ذلك. من دون عدالة أو رحمة، من دون حق، من دون مساواة، من دون عدالة اجتماعية. ولأي شكلٍ كان، عندما تتكئ دولة على أي من هذه الدول الخمس الاعتراف بها بحق الحياة. وبالتالي، مؤكد أن هذا النظام غير عادل. وجميعنا يشاهد وضع إسرائيل التي تسند ظهرها إلى الولايات المتحدة الأميركية، والعالم مجرد مشاهد لظلم إسرائيل، فكل يوم تعمل على قتل إخوتنا في فلسطين، في قطاع غزة والضفة الغربية، ويتم اللجوء إلى الأمم المتحدة مئات المرات. وبعد الأقوال والكلمات في مجلس الأمن، تضع أميركا يدها في الأمر. وبهذا، تواصل إسرائيل التي ترتدي درع الحصانة ارتكاب مظالمها أمام مرأى العالم.
وفي سورية، عندما يستخدم النظام الأسلحة الكيميائية، ينتقل الموضوع إلى الأمم المتحدة، والقوى التي يستند إليها النظام تعمل على التستر عليه، وعلى جرائمه ضد الإنسانية. وهذا النظام لا يمكن أن يستمر، فالنظام الذي لا يوجد في أساسه الحق والسلام والعدالة محكوم بالانهيار. وفي العالم، كما هناك 105 دول لا تحصل بأي شكل على التقنيات المتطورة، بسبب "العصابة الخماسية"، فإن 195 دولة لا تأخذ نصيبها في الإدارة السياسية.
نحمد الله أننا في تركيا بدأنا إظهار قوتنا، فمع قرار أميركا نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، اتخذنا قرارا في الأمم المتحدة. وخلال عملية التصويت، شاهد الجميع المواقف التي اتخذتها تركيا حيال هذا الأمر، وكذلك الأمر في اجتماع دول مجلس التعاون الإسلامي بشكل عاجل، واتخاذه قراراتٍ هي نقطة تحول تاريخية في الحق والعدالة والسلام. وبعد هذا التصويت، فإن نظام العالم لا يستطيع، بعد الآن، أن يستمر بهذا الشكل، وإن أرادوا ذلك لن يستطيعوا.
الموقف التركي خطوة مهمة في استقرار النظام العالمي، وفق بناء يعتمد على الحق والعدالة.
كما أن تركيا في موضوع اللاجئين السوريين الذين وضعوا العالم في موقف العاجز، كاشفين عن الوجه الحقيقي للعالم المعاصر، هي نموذج للعالم، دولة وشعبا. فبلادنا فتحت أحضانها لثلاثة ملايين ونصف المليون سوري، واستضافتهم، بكل ما للكلمة من معنى، وتمكّنوا من أن يكونوا الأنصار بالفعل. فأبناء الشعب تقاسموا الخبز الذي بين أيديهم مع المهاجرين. ليست تركيا من الدول الغنية، ولكن وفقا لنسب الدخل الوطني غير الصافي، فإنها  في المساعدات تحتل المرتبة الأولى عالميا. وإذا كنا نريد تأسيس نظام إنساني في العالم، ورغبنا في بناء نظام سياسي جديد، فإن توفير التطور الإنساني في العالم يتطلب من الجميع المشاركة، وعلى جميع الدول الكبرى تقاسم مسؤولية اللاجئين.
وتركيا من أجل بناء نظام مالي عالمي جديد، والدخول للمنافسة العالمية في التقنيات العالية، ولتأسيس نظام سياسي عالمي جديد، مضطرة أن تمتلك أفكارا حقيقية يُراهن عليها. وكبلد متحدث باسم الرحمة والحق والعدالة مستعدة دائما لطرح أفكارها في هذا الموضوع، وتطويرهذه الأفكار، واستمراريتها بالأولوية الإنسانية، ومستعدة لدفع ثمن ذلك مهما كان.
وعلى جامعاتنا وسياسيينا، وعلى منظمات المجتمع المدني، أن يحرصوا على معرفة مكانهم ودورهم، أين وكيف، ضمن هذه الصورة الكبيرة، وبذل جهودهم فيها.
E53DFD1F-20F9-4328-8B91-843AE3674E05
E53DFD1F-20F9-4328-8B91-843AE3674E05
نعمان قورطولمش
نعمان قورطولمش