السعودية الجديدة.. هل ماتت، هل ولدت؟

السعودية الجديدة.. هل ماتت، هل ولدت؟

04 نوفمبر 2018
+ الخط -
عندما تولى الأمير محمد بن سلمان منصب ولاية العهد في السعودية في 21 يونيو/ حزيران 2017، أطلق كُتاب وصحافيون وناشطون سعوديون على شبكات التواصل الاجتماعي شعار "السعودية الجديدة"، مُحملينه تطلعات قطاعٍ عريضٍ من الشعب السعودي، خصوصا الشباب، في أن يحمل صعود الأمير الشاب إلى مركز الحكم وصنع القرار الانفتاح الذي انتظروه طويلا، سيما على صعيد الحريات الاجتماعية، والحقوق الفردية، وفي أن يُشكل اقتراب أمير في الثلاثين عاما من العمر من تبوء منصب الملك دفعا لمطالب التغيير والإصلاح التي طالما نادى بها كتّاب وأكاديميون وناشطون سياسيون وحقوقيون سعوديون، معظمهم اليوم في السجون. غير أن شعار "السعودية الجديدة" لم يقتصر على السعوديين، بل كان التفاعل (والأمل) خليجيا أولا وعربيا ثانيا، بل تفاعلت أصوات خارج الجغرافيا العربية، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية، مع هذا الشعار، ونظرت إلى "مشروع محمد بن سلمان" التجديدي بوصفه تحولا سيغيّر من وجه السعودية والمنطقة العربية.
ولهذا التفاعل و"الأمل"، داخل السعودية وخارجها، أسبابه، فليست السعودية بلدا هامشيا، بل هي دولة فاعلة في محيطها وفي العالم. فإلى جانب أنها مهبط رسالة الإسلام، وموطن مقدسات المسلمين، وقبلة نحو مليار مسلم، فإن وزنها الاقتصادي، أحد أكبر منتجي النفط، وصاحبة ثاني أكبر احتياطي نفطي، في العالم، يجعل منها لاعبا مؤثّرا في المشهدين الاقتصادي والسياسي في العالم. يضاف إلى ذلك عامل آخر مهم، هو أن السعودية هي البلد العربي الوحيد ذو الثقل الاقتصادي والسياسي الذي ما يزال موحّدا ومتماسكا، ويمكن أن يشكل مركز ثقل في العالم العربي، ومحطّة توازن في أية ترتيبات تُرسم لهذه المنطقة، إنْ على صعيد القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، وما بات يُروّج باعتباره "صفقة القرن"، أو على مستوى العلاقات الخليجية الإيرانية، أو على ضوء النتائج الكارثية للصراع في سورية، والوضع الكارثي في اليمن (الذي تسببت السعودية والإمارات وإيران فيه). فبعد سقوط العراق وسورية وتفككهما، وتعثر مصر، وانهيار اليمن، لم يعد ثمّة من بلد عربي مركزي قادر على إحداث التوزانات المطلوبة، وفرض شروط عربية عادلة على طاولة التسويات، أكثر من السعودية.
قبل تولي محمد بن سلمان إدارة أمور الحكم في بلاده، بل قبل تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، 
وهو الذي سلم أمور الدولة وشؤون الحكم إلى نجله، مرّت السعودية باختبارات كثيرة وكبيرة، من حادثة اقتحام جهيمان العتيبي الحرم المكي عام 1979، مرورا بالثورة الخمينية في إيران في العام نفسه، وتصدّي السعودية لما وصف بالمد الشيعي، ثم حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران (1980 - 1988)، وبموازاتها احتلال الاتحاد السوفييتي السابق أفغانستان، ودخول السعودية على خط "الجهاد ضد المد الشيوعي"، فاحتلال العراق الكويت عام 1990، ثم أخطر تلك التحديات هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001 التي تبنّاها تنظيم القاعدة بزعامة السعودي أسامة بن لادن، وشارك في تنفيذها ستة عشر شابا سعوديا، والتي وضعت السعودية في مواجهة عاصفة انتقاد أميركية وعالمية، وفي حالة شبه عزلةٍ دولية استمرت نحو عامين. لكن السعودية كانت، في كل مرة، تتعامل مع تلك التحديات بخليطٍ من الوضوح والمناورة، الاعتراف والمواربة، الصبر والحكمة، الانكفاء والمواجهة، توظيف المال تارةً، والعلاقات تارة أخرى. وكانت تنجح في الانحناء أمام العاصفة، وإنْ كانت العاصفة تترك، في كل مرة، آثارا على الداخل السعودي، كانطلاق مشروع "الصحوة" الدينية الذي أعقب حادثة جهيمان العتيبي، والذي قلص هامش الانفتاح والحريات الاجتماعية والفردية الضيق والمحدود الذي كان المجتمع السعودي يتمتع به قبل الحادثة، إلى الصفر تقريبا، ثم جاءت الثورة الخمينية في إيران، ومعها الجهاد ضد التمدّد الشيوعي في أفغانستان، لتُطلق يد المؤسسة الدينية، أو ما تعرف بـ"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ضد كل من يخالف (أو يختلف) مع "التدين الرسمي"، وليس انتهاءً بأحداث "11سبتمبر" التي جعلت السعودية تعيد النظر في برامج دعمها ما يعرف بـ"الإسلام الجهادي" في العالم، وتعيد النظر في مناهجها الدراسية في الداخل، وإطلاق مشروع "المناصحة"، وإعادة تأهيل المنتمين إلى الجماعات المتطرّفة والمتأثرين بفكرها وإعادة دمجهم في المجتمع. لكن الدولة السعودية وأسرة الحكم فيها كانتا تتجاوزان الأزمات والتحديات، وتُبقيان على تماسكهما ووحدتهما.
هكذا عندما أطلق ولي العهد الشاب والملك غير المتوّج وعوده بالتغيير والإصلاح، تحديدا على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي، وأعلن تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفّ أيدي من يعرفون بـ"المحتسبين" عن محاكمة ضمائر الناس والكتّاب والمثقفين، ثم السماح للمرأة بقيادة السيارة، هذا بالطبع إلى "رؤية السعودية 2030"، استقبلت قرارته بترحيبٍ وتفاؤلٍ كثيريْن في الداخل، وبقدرٍ جيد منهما في الخارج. ومن لا يرغب في أن يرى "سعوديةً جديدةً، شابة، ومنفتحة"؟!
غير أن ثمة فارقا بين الأقوال والأفعال، أو أن الأقوال وشعار "السعودية الجديدة" لم تسنده أفعالٌ تؤكّده، وتُظهر وضوح رؤيته وحسن نياته، ففي وقتٍ تحمل رؤية السعودية 2030 برامج ومشاريع طموحة للنهوض الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل، كانت الآلة الحربية السعودية (ومعها الإماراتية) تواصل، من دون هوادة، تدمير اليمن وبناه وهياكله واحتلال موانئه وقتل ملايين اليمنيين الأبرياء وتجويعهم وتشريدهم. وفي الوقت الذي يُروّج فيه الإعلام السعودي، وبعض المثقفين وناشطي شبكات التواصل الاجتماعي، عن الانفتاح الاجتماعي، أو ما تعرف بلبرلة المجتمع، عبر السماح للمرأة بقيادة السيارة، والسماح بإقامة الحفلات الغنائية والموسيقية المختلطة، وإنشاء دور عرض الأفلام السينمائية، كانت حملة الاعتقالات ضد كل مخالفٍ أو مختلفٍ أو منتقد، حتى ولو بالصمت، تتّسع، ناهيك عن حملة الاحتجاز ضد طيفٍ واسعٍ من الأمراء ورجال الأعمال، تحت شعار محاربة الفساد، ولكن بهدف إجبارهم على التنازل عن جزء من أموالهم وأملاكهم للدولة.
مع اتساع الحرب في اليمن، وتصاعد التوتر مع إيران، بدا أن الحكمة هي ضالّة الحكم الجديد في "السعودية الجديدة"، فعوضا عن الاعتراف بخطأ الحسابات في شن الحرب على اليمن بذريعة مواجهة إيران، والبحث في مقارباتٍ أخرى، تقوم على الحوار والتفاهم، واصلت السعودية حربها متجاهلةً الكارثة الإنسانية التي تسبّبت فيها في هذا البلد العربي.
ولم يتوقف الأمر على المعالجات غير الحكيمة لملف الحرب في اليمن وحده، بل وفي ملفات 
وقضايا داخلية وخارجية أخرى. من مسائل الحوار مع منتقدي سياسات ولي العهد من بعض الكتّاب ومشايخ الدين، والناشطات والناشطين الذين إما زُجّوا في السجون، أو اضطروا إلى المنفى الاختياري خارج بلادهم، إلى ملف الخلاف مع قطر والذي شكّل، إضافة إلى ملف التورّط في اليمن، وحتى ما قبل الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أكبر اختبار لقدرة محمد بن سلمان وفريق حكمه على التعاطي مع القضايا السياسية الخارجية الكبرى، إلى قضية احتجاز رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، إلى معالجة الأزمة الدبلوماسية مع كل من ألمانيا وكندا، إلى الدفع بالعلاقة مع دولة إقليمية كبرى، تركيا، نحو مزيد من السوء والتراجع.
هكذا بدا أن مشروع الأمير محمد بن سلمان يُغير، فعلا، وجه السعودية والمنطقة، ولكن في الاتجاه المعاكس الذي يدفع إلى مزيدٍ من التضييق على أصحاب الرأي ودعاة التغيير في الداخل (وبعضهم للمفارقة يتفق مع جوهر التوجهات التي أعلنها ولي العهد، وإن كان يختلف مع المقاربات) وإلى مزيدٍ من التوتر والخلاف، خليجيا وإقليميا ودوليا.
قلنا إن السعودية القديمة، قبل هذه "السعودية الجديدة" مرّت بتحدياتٍ واختباراتٍ عديدةٍ لكنها تمكّنت من الخروج منها موحّدة متماسكة، على الرغم من آثار تلك التحديات. فهل تتمكّن "السعودية الجديدة" هذه من الخروج من قوس التحديات الكثيرة التي أنتجتها عبر سياسات وممارساتٍ تفتقد إلى الحصافة والتروّي، وأخطر هذه التحديات الجديدة قضية مقتل الكاتب والصحافي السعودي، جمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية في إسطنبول؟
تقول القراءات حتى الآن إن "السعودية الجديدة" التي ولدت يوم 21 يونيو/ حزيران 2017، مع تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، قد تكون ماتت ودفنت يوم الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، مع جريمة قتل جمال خاشقجي المروّعة، وإن سعودية أخرى جديدة ستولد من رحم أزمة خاشقجي، ولكن على نحوٍ يتّصف بالحكمة والتروّي والعودة إلى علاقات احترام الجوار ومصالح الآخرين، فهذا البلد الكبير لا يخلو من الحكماء الكبار.