فرنسا.. الثورة الدائمة

فرنسا.. الثورة الدائمة

30 نوفمبر 2018

أحد محتجي السترات الصفراء في باريس (24/11/2018/الأناضول)

+ الخط -
كشفت الحركة الاحتجاجية المسماة "السترات الصفراء"، والتي انطلقت عفويةً عبر مسيرات على امتداد التراب الفرنسي، عن شرخ عميق وأزمة بنيوية في نظام الوساطة، حيث لم تعد الفئات الشعبية والمهمشة، وحتى الطبقة المتوسطة، تضع ثقتها في المركزيات النقابية التي تجاوزتها التحولات المجتمعية والتطورات الاقتصادية، وفي الأحزاب التقليدية التي باتت تفتقد المصداقية والشرعية الديمقراطية، كما أن انبثاق حركة السترات الصفراء لا يرتبط بالضرورة بالظرفية الحالية التي يعيشها المجتمع الفرنسي على عدد من المستويات، بل تجد جذورها في تراكم عدد من الاختلالات، بسبب اختيارات وسياسات عمومية لحكومات سابقة، كانت لها انعكاسات سلبية على القدرة الشرائية، للأغلبية الساحقة من الفرنسيين الذين أصبحوا يشعرون بالإهانة، جرّاء الارتفاع المهول في الأسعار والضغوط الضريبية، وتحملهم أعباء كلفة الإصلاحات المتتالية.
توقف علماء اجتماع وسياسة وخبراء في التواصل عند طبيعة هذه الحركة، والطريقة التي قادت بها موجة من الاحتجاجات، بما في ذلك مسيرة جادة الشانزليزيه التي انقلبت إلى مشهد مطبوع بالعنف والتخريب والحرائق، مشهد لم تعرفه فرنسا منذ ثورة مايو/ أيار 1968، على الرغم من اختلاف السياق والدوافع والشعارات، لكن المتفق عليه في مختلف التحاليل والقراءات أن الأمر يتعلق بتيار اجتماعي عفوي وصريح وجريء في كل شيء، رفع مطالب مرتبطة أساسا بحذف أو، على الأقل، تخفيض الضريبة على المحروقات، وتحسين القدرة الشرائية التي أصبحت لا تقوى على مواجهة غلاء المعيشة، وتقليص نسبة البطالة، وممارسة السياسة بشكل مغاير.
وعلى الرغم من الطابع العفوي للحركة، وافتقادها الهيكلة، وتأطير احتجاجاتها وغضبها، فقد 
تمكّنت من أن تتحوّل إلى قضية رأي عام. وهذا ما جعل الملاحظين يطرحون السؤال التالي: هل يمكن أن يتحوّل أصحاب "السترات الصفراء" إلى محاورين للتفاوض بخصوص المطالب التي خرجوا للاحتجاج من أجلها؟ وبدا واضحا أن الحركة لمست الحاجة الملحة للانتقال إلى مستوىً آخر من الفعل، والذي ترجمته من خلال اعتماد مجموعة من الناطقين باسمها في عدد من المناطق والمدن، ما يفسر رغبتها في تواصلٍ أقوى وفعال لإسماع صوتها بوضوح، بعيدا عن أي تشويش أو تأويل في غير محله، خصوصا بعد أن تسلل مخربون إلى المسيرة التي نظمتها في منطقة الشانزليزيه.
الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه خلال تنصيب المجلس الأعلى للمناخ يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي كان منتظرا على نطاق واسع، خصوصا من حركة السترات الصفراء، وكل مكونات الطبقة السياسية والإعلاميين والمثقفين. اعترف ماكرون، في خطابه الذي جاء بمثابة إعلان عن عقد اجتماعي جديد، بالأمر الواقع، قائلا "هناك حركة احتجاجية انطلقت منذ أسابيع، أفضت إلى مظاهرات مهمة، ولكن أيضا إلى أعمال عنف غير مقبولة. وأنا لا أخلط بين أعمال العنف والتظاهرات، وبين المتظاهرين ومن يقومون بأعمال عنف. أتفهم مخاوف من يقول إن الفرنسيين يدفعون ضريبة الانتقال البيئي من دون أن يروا نتيجة ذلك". ودعا ماكرون، في السياق نفسه، إلى وضع آلية من شأنها تقديم حلول ملموسة، وفقا لخصوصية المناطق الترابية الفرنسية، قائلا: "يحب أن يتفاعل الجميع في وضع هذه الآلية، بمن في ذلك محتجو السترات الصفراء".
ولإقناع المحتجين، من شتى الفئات الاجتماعية والحساسيات السياسية، بجدية إجراءاته ومصداقية التزاماته، كلف رئيس الوزراء إدوار فيليب بإعداد منهجية للتشاور، لإيجاد حلول مناسبة حسب طبيعة كل منطقة، موضحا أن ارتفاع ضريبة الوقود تم الإعداد لها في السنوات الماضية، ولكن الإعلان عن ذلك واكبه ارتفاع أسعار النفط على المستوى العالمي في الوقت الحالي. وأعلن ماكرون عن آليةٍ تسمح بأن تكون الضريبة أكثر مرونة وليونة، بحيث يتم مراجعة قيمتها على الوقود كل ثلاثة أشهر، للتوافق مع أسعار النفط.
وقال الرئيس الفرنسي إنه يستمع للغضب "وهو مشروع. ولكن يجب أن نوضح الحلول البديلة للمواطنين. يعبر المواطنون عن آلامهم. ولذلك ينبغي لنا خلال ثلاثة أشهر بناء حلول ملموسة بالتعاون مع السلطات المحلية المختلفة. سنقدم خلال الثلاثة أشهر المقبلة حلولا بعد إجراء حوار مجتمعي شامل. وأنا أعترف أنني أشاطر كل مشاعر الغضب التي تم التعبير عنها. لن أكون ضعيفا أمام أعمال العنف"، غير أن اللغة التي صيغ بها خطاب ماكرون، والالتزامات والذرائع والتبريرات التي تضمنها، ورسائل التطمين التي تخللته، لم تترك أصداء إيجابية لدى نشطاء "السترات الصفراء"، وهناك من اعتبره بأنه كان مخيبا لآمال المحتجين وانتظاراتهم، مشبها إياه بأنه ضربة سيف في الماء، في إشارة ضمنية إلى عدم استجابته لمطالب حركة السترات الصفراء.
ويتقاطع مع هذا الموقف مجموعة من الفاعلين السياسيين، خصوصا المحسوبين على معسكر 
اليسار، حيث دعا فابيان روسيل الكاتب الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي الذي انتخب في المنصب، قبل أيام، إلى ضرورة إلغاء رفع الضريبة على المحروقات بسبب التراجع الصارخ للقدرة الشرائية، واقترح، في مقابل ذلك، رفع الأجور في القطاعين العام والخاص، واعتماد خدمةٍ عموميةٍ أكثر وضرائب أقل، وصولا إلى إقرار العدالة الضريبية. واعتبر أنه إذا لم يُنصت الرئيس لغضب الطبقات المتضرّرة والمهمشة، يتعين على الشعب الفرنسي، في إطار الوحدة والتنوع، أن يتمسّك بخيار التصعيد والضغط الهادئ الذي لا تراجع عنه، كما وجه دعوةً إلى حركة السترات الصفراء، قصد تنظيم صفوفها، وأن لا تشكّك في حسن نيات الأحزاب القريبة منها، بهدف التحاور معها وتقاسم الأفكار. ودليلا على خيار التصعيد، وتشديد الخناق على الحكومة الفرنسية، من المرجّح جدا، إذا واصلت الحركة احتجاجها، أن تعرف تطورا لافتا عبر التحاق أحزاب ونقابات عمالية وطلابية، لتأخذ الحركة أبعادا جديدة قد تؤهلها لتتحول رقما أساسيا في المعادلتين، الاجتماعية والسياسية، شريطة أن تتوصل إلى تفاهمات واتفاقات مع الداعمين لها، تفاديا للتوظيف السياسوي وركوب أحزاب ونقابات، تشكو من تراجع شعبيتها، عليها.
هناك انتقادات شديدة اللهجة وجهت إلى الحكومة الحالية التي اتهمت بافتقادها الرؤية الإستراتيجية، كما أن غياب فعالية مؤسّسات الدولة على مستوى المناطق وغياب فعالية البرلمانيين يجعل هامش المناورة للرئيس ماكرون ضيقا للغاية. وقد اتهمت الحكومة ضمنيا رئيسة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقا)، مارين لوبان، بتحريض متظاهرين على ارتكاب أعمال شغب وتخريب، وحمّلتها المسؤولية المعنوية للانزلاقات الأمنية والمواجهات التي شهدتها جادة الشانزليزيه، غير أن لوبان نفت التهمة، وأوضحت أنها منخرطة في معركةٍ مبدئيةٍ، تقودها ضد العولمة المتوحشة. وشدّدت على أنها مسؤولة سياسية تدعم "السترات الصفراء"، ودورها أن تقول لرئيس الجمهورية أن لا يستمر في الإنصات لذاته، والتشبث بخياراته 
وسياسته، بل يجب عليه أن يستجيب لمطلب هؤلاء. وحسب رأيها، فإن قرار الرفع من الضرائب لا ينفع، ودعت إلى رفع الأجور على غرار قادة أحزاب اليسار. كما انتقدت غياب أسس ديمقراطية القرب، واتكال الحكومة على حكام المدن الذين يملكون سلطة ضعيفة، وليس لهم أي جواب، لأنهم مجرّد موظفين.
طرح الانتقال المناخي، حسب زعيمة اليمين المتطرّف، مشكلات عديدة، وأظهر غياب الدولة الإستراتيجية، فقد أنفقت فرنسا حوالي سبعة مليارات يورو في الاستثمار في الطاقة الريحية، في الوقت الذي كان يمكن المراهنة على بدائل أخرى، أقل تكلفة، ولا تمس التوازنات الاجتماعية.
يعكس ما يحدث الآن في فرنسا هشاشة الوضعين، الاجتماعي والاقتصادي، ووجود هوة سحيقة بين الطبقة الحاكمة وشرائح واسعة من المواطنين، كما أن هذه الوضعية تجسد حالةً من عدم الاستقرار النفسي، علما أن الحركة الاحتجاجية انطلقت بدون زعامات وقيادات، ولا إيديولوجيا موحدة، وبدون أطروحات وبرنامج عمل مفكر فيهما، لكنها مع ذلك تترجم تحولا عميقا في الفعل الاحتجاجي، وفي بنيته وشعاراته وموارده البشرية، وقد بدأت في منصّات التواصل الاجتماعي، على غرار حركة الرئيس إيمانويل ماكرون.