زيارة بن سلمان وفرادة تونس

زيارة بن سلمان وفرادة تونس

30 نوفمبر 2018
+ الخط -
تعد زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تونس أخيرا، اختباراً لأمرين، الحالة الديمقراطية التي تعيشها البلاد، ومدى صحة هذه الديمقراطية، ومنعتها تجاه واحدٍ من رموز الاستبداد الذي تخطّى بطشه حدود بلاده. واختباراً لحقيقة المواقف الرسمية والشعبية، في أي بلادٍ يزورها، ومنها تونس، المواقف التي خرجت في أعقاب جريمة اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي. فتبدو جولة بن سلمان كأنها تضرب عرض الحائط بكل المواقف المنتقدة له، وأنه يُراد منها تلميع صورته، بعد العار الذي ألحقته بها هذه الجريمة، علاوة على مآسي الحرب التي تشنها بلاده وحلفاؤها على اليمن.
في الجولة التي وصفتها صحيفةٌ بأنها لغسل يدي بن سلمان من دم خاشقجي، محاولةٌ لإعادة الاعتبار للسياسة السعودية، حيث تنطوي على رسالةٍ مفادها بأننا في المملكة قد تعافينا من الضربات التي تلقيناها في الشهرين الأخيرين. كما تفيد بأننا دولةٌ قويةٌ نفعل ما نريد بحق مواطنينا، وفي أيٍّ من قنصلياتها غير مبالين بانتقاداتٍ تطاولنا. وهي، بالتالي، تبدو كأنها رسالة تحدٍّ لجميع من انتقدوا سياسته، ولكل من أشاروا إليه بالبَنان، من أفرادٍ أو مؤسساتٍ، عن مسؤوليته في جريمة قتل خاشقجي. وقد شرع بجولته غير عابئ بما تلقاه، وما يتلقاه، من انتقاداتٍ في الإعلام العالمي على خلفية الجريمة، وعلى خلفية انتهاك حقوق الإنسان في المملكة وخارجها، كما في الحرب التدميرية التي تقودها بلاده في اليمن وفي حصار قطر. ولكن بن سلمان نسي أن الانتقادات التي كانت توجه للمملكة في السر، جعلتها جريمة قتل خاشقجي علنية، وإن كان المسؤولون سيتناسون فحواها، فهي ستبقى على لسان العامة إلى حينٍ ليس قصيرا.
المراقب جولة بن سلمان يراها متدرِّجة في صعودها، انطلقت من بيت الحليف الأقرب، في أبو
ظبي، ثم إلى الحليف الطيِّع في المنامة، وبعدها إلى المعتاش على "الرز السعودي" في مصر. وهنا لا شيء يقلق المسافر في رحلته، لن يجد في بلاد صاحب نظرية الرُّز ما يقلقه أو يعكر صفو ترحاله، الاستبداد واحد، سواء قتل صحافياً بالمنشار، أو عذَّب باحثاً إيطالياً وقتله "كما لو أنه مصريٌّ"، ورمى جثته في ترعة بجانب الطريق. لا فرق بين المستبدّين، كلٌّ يغتصب السلطة بطريقته، ويستجدي المباركة الأميركية بطريقته أيضاً.
لكن محطة تونس تختلف. الشعب يحاول إكمال ثورته في هذه البلاد، فلا استبداد في وطن الثورة، ولا مستبدون في مضافاتها. لا يرى الشعب في تونس أكل "الرز السعودي" سوى مقدمة للضرب بسيف حكامها. لذلك، كان بن سلمان غريباً عن أرضٍ تتكلم العربية، كما يفعل هو، ومع ذلك تجاهر صحافتها ونقاباتها وأحزابها وأبناء شعبها في مطالبها التي تهدف إلى تقويم "أولي الأمر" فيها أو نزعهم. لذلك خرجت المظاهرات، وعمت مواقع التواصل الاجتماعي حملاتٌ ترفض استقبال الرجل، وتدعو الحكومة إلى منعه من دخول البلاد. وكانت فرادة هذه الحادثة أنها ربما تعد المرة الأولى التي تخرج فيها مظاهراتٌ في بلد عربي ضد زيارة زعيمٍ من بلد عربي آخر. وردّد المتظاهرون عباراتٍ ترفض تدنيس، جالد النساء وقاتل الصحافيين ومجرم الحرب في اليمن، أرض الثورة.
ومن هنا، برز في تونس تقدم المجتمع ونخبه السياسية الأهلية على النخبة الحاكمة. بقي مجتمع الثورة سالماً، تدفعه قيم ثورته إلى رفض استقبال قاتل الصحافيين وعدو حرية التعبير، ومن آوى سارق ثروتهم، زين العابدين بن علي، وامتنع عن ترحيله لتقديمه للعدالة. يرى بن سلمان في هذا الأمر تجديفا، كيف لمن خرجوا عن طاعة أولي الأمر وخلعوهم أن يكون لهم صوت، ثم يتجرأون ويطالبون حماة المجرم بتسليمه للمثول أمام القضاء؟ وهل يعترف بن سلمان بقانونٍ أو قضاءٍ، سوى ما تقضي به شريعته، وأمزجة عسسه؟ لا ترتقي حكومة البلاد إلى رقي مجتمعها، وإيمانه بقيم الثورة التي ترى في حرية الصحافة وحرية العاملين فيها خطا أحمر، يُحرَّم على من دَيْدَنه القتل بالمنشار أن يطأ أرضها. لذلك دخل بن سلمان من الباب الموارب، وخرج من الباب الموارب نفسه من دون أن تلحظه عيون حماة قيم الثورة.
صحيحٌ أن الحكومة التونسية لم تعمد إلى قمع الاحتجاجات التي ترفض زيارة بن سلمان، لكنها 
لم تستجب لمطالب المحتجين، واستقبل رئيسها الرجل أربع ساعات في تحدٍّ للإرادة والمزاج الشعبيين. وفي هذا الأمر إشارة إلى حجم الأزمة التي تجد المؤسسة الحاكمة نفسها فيها، والتي تعجز عن الخروج منها، وترفض الاستماع إلى صوت الشعب المطالب بحلها. وهي هنا في ورطةٍ وضعت نفسها فيها فهي لم تحقق أيا من مطالب الثوار، على الرغم مما حققته الثورة من حرياتٍ ملموسة، وعلى الرغم من أن الثورة هي من أوصلت هذه النخبة إلى الحكم، فالإصلاح الاقتصادي الذي عجزت عن تحقيقه، وكان سبباً في خروج ثورة الشعب التونسي ما زال بعيد المنال.
وحيث إن البلاد تسودها حالة من الفقر والحرمان والبطالة، كما قبل الثورة، وتنخفض قيمة العملة فيها، ويتراجع الاقتصاد، فربما، والحالة هذه، ترى الحكومة في الوعود السعودية بالمساعدة الاقتصادية حقنةً توقف حالة الانهيار الاقتصادي الذي أوصلت البلاد إليه. وهي بذلك ستصطفّ إلى جانب مصر في استعطاء "الرز السعودي" الذي لم ينقذ الاقتصاد المصري، ولم يوقف حالة الغليان القابل للتفجّر في أي لحظة في البلدين.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.