يخلق من الشبه أربعين

يخلق من الشبه أربعين

28 نوفمبر 2018

(Getty)

+ الخط -
دائما ما كنت أردّد المثل الشعبي "يخلق من الشبه أربعين"، لكنني لم أفكّر مرة بالبحث عن واحدةٍ من شبيهاتي الأربعين، اعتقادا مني بأن أقربهن تعيش في قارة أخرى، واكتفيت بأنني واحدة من الأربعين شبيهات مطربةٍ قديمة، وهذا حسب اعتقاد جدتي، رحمها الله. وحين كبرت، بدأت أطبق المثل على الآخرين، فعثرت في أرض الواقع على أشباه لشخصيات أدبية وثقافية، تعرفت إليهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنني لم أخبر أحدهم أن شبيهه يعمل سائقا، وشبيه الثاني يعمل صرّافا في بنك، وشبيه الثالث يهيم على وجهه في الطرقات كـ"عبيط البلدة".
احتفظت بهذا كله لنفسي، غير أني لم أمنعها من الابتسام ابتسامة خفيفة، لا يلحظها السائق المتذمر، وأنا أتخيل الكاتب المغرور الذي يجمع حوله الفتيات المراهقات، ويكتب قصصا قصيرة لا ترقى إلى مستوى القصص، ولا تصلح إلا أخبارا عاجلة ومفبركة في صحيفةٍ تهتم بالفضائح لتحقيق الرواج.
واكتشفت أيضا أننا نمر على الوجوه مرور الكرام، فنحن نقابل ألف وجه في الشارع الواحد، ونصطدم بألف وجهٍ آخر، ونحن في انتظار أن تفتح إشارة المرور الحمراء، وتسمح لتلالٍ من السيارات المكدسة بالبشر بالمرور، ولكننا حين نرى مجموعة من صور الأشخاص فجأة معلقة في كل مكان، ومنشورةً في جميع المواقع تحت عنوان "مطلوبون للعدالة"، نبدأ في شحذ ذاكرتنا، ونحدّث أنفسنا بأن هذه الوجوه من المألوفة لنا، وأننا نعرفها، والتقينا بها من قبل، لكن لا نذكر أين ومتى؟
عندما نشرت حكومة حركة حماس في غزة مجموعة صور لمطلوبين للعدالة، وهم أفراد قوة خاصة دخلوا غزة، وقاموا بعملية اغتيال عدة عناصر من الحركة، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتندرات والتكهنات حول صور هؤلاء الأشخاص المطلوبين الذين بدت ملامحهم عربيةً بدرجة كبيرة، وكانت الفكاهة الأكثر تداولا أن أحدهم قد نشر على حسابه أن صورة المرأة التي تضع "العوينات" تشبه حماته، ودوّن تحت التعليق عنوان حماته ليتخلص منها. وهكذا دارت دائرة من التشبيهات التي أكّدت أنه "يخلق من الشبه أربعين"؛ لأن بعض رواد موقع فيسبوك كانوا أكثر حماسة، فأرفقوا صورة أحد المطلوبين بصورة فنان شهير، أو صديق أو قريب.
انتابني الإحساس بأن هؤلاء المطلوبين قد رأيتهم من قبل، وبمجرّد أن أبديت هذه الملاحظة، أمّن عليها أولادي تباعا، وأنهم يشعرون الشعور نفسه، ولكن لا يعرفون أين ومتى؟
يبقى هذان السؤالان الحائران "أين ومتى" المنجيين من التقاء الأشباه، ومغبة ذلك، أكانت شرا أم خيرا، ولا أحد سيكلف نفسه ليحملق في الوجوه؛ لأنه سيكتشف أنه يبحث عن إبرةٍ في كومة قش، لكن العثور على شخصٍ بعلامات بارزة في وجهه يضيّق دائرة البحث، وإن كنت أرى، برأي متواضع، أن عمليات التجميل التي قفزت قفزة واسعة في السنوات الأخيرة قادرةٌ على تغيير شكل أي إنسان، رجلا كان أم امرأة، ومحو ملامحه الأصلية، والدليل على ذلك أنني لم أتعرّف على مطربة للوهلة الأولى حين أطلت بـ"نيولوك" بعد غياب، ولم أتحقق منها إلا حين أطلقت صوتها المميز الذي لا أخطئه بالغناء.
والتفسير النفسي لأننا لا نتذكّر كل الوجوه، هو أن الحياة معقدة إلى درجة أننا لا نمعن النظر، ونتخيل أننا كذلك، ومثال على أننا لا نستعمل عيوننا أنه، بعد اغتيال شخصية سياسية في تسعينيات القرن العشرين، حيث فرّ الجناة على درّاجة نارية، رسم الرسام صورا للجناة من إفادات شهود العيان الذين كانوا في المكان. ونشرت الصحف الصور، وبدأ الناس بالبحث عن أشخاصٍ من دول أجنبية شقر الشعر، وزرق العيون. ولكن بعد القبض على الفاعلين، تبيّن أن الجناة من الصعيد "الجواني"، فهم سمر البشرة ومجعّدو الشعر، ولا علاقة لهم بفريق "الهيبيز" الذي نشرت صوره الصحف.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.