مغربان في كبسولة واحدة.. وبسرعتين

مغربان في كبسولة واحدة.. وبسرعتين

27 نوفمبر 2018

طاقة القمر الصناعي محمد السادس - ب من الشمس

+ الخط -
احتفى المغاربة، بجميع أطيافهم، بإطلاق القمر الصناعي الثاني "محمد السادس ب"، في خضم الاحتفاء بإطلاق الخط السريع للقطار، واحتضان مدينة مراكش لمنتظم أفريقي، يخصّ المدن والحكومات المحلية. وجاء إطلاق القمر الصناعي الثاني تتويجا للمغرب الناجح، في كل الأدبيات السياسية والإعلامية التي تابعته، كما أن البلاغة السياسية المسرورة به أعربت عن اعتزازها الكبير بـ(البراق) الذي يعتبر أول قطار فائق السرعة في أفريقيا، إلى جانب إنجاز أكبر محطة للخط السككي السريع، ويربط بين طنجة والدار البيضاء، أو بين عاصمتي الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، كون الإنجازين هما توقيع مغربي للالتحاق بنادي التكنولوجيات المتقدّمة في الفضاء، وعلى سكة السرعة الفائقة...
واعتبرت التعليقات، وكذا المتابعات، أن المغرب وضع اسمه في لائحة الدول الصاعدة أفريقيّاً بفضل القوة التكنولوجية، ليكون بذلك "الجار الأول لأوروبا، والذي حقق مثل هذا التقدّم التكنولوجي، وأول بلد أفريقي يتوفر على أقمار صناعية ذات دقة عالية". وتقول المعطيات العلمية إن القمر الصناعي "محمد السادس – ب" يتوفر على نظامٍ متطوّر لتحديد المواقع، وبإمكانه أن يجوب الأرض خلال مائة دقيقة فقط، وبفضل التجهيزات التي يتوفر عليها، بإمكان هذا القمر الصناعي الذي يتوقع أن يستمر ما بين 15 و30 سنة أن يستمد طاقته من الشمس، ويرسل ألف صورة في اليوم إلى فرق المركز الملكي للاستشعار الفضائي عن بعد، والمركز الملكي للدراسات والأبحاث الفضائية. وهذان الإنجازان يوزّعان المزاج العام المغربي، من
أبسط مواطن إلى أعلى الهرم، بين سرعتين في البلاد الواحدة، كما أن المناخ العام يتوزع بين الاعتزاز بما يتحقق على السكة وفي الفضاء، في الوقت الذي لا تساير السياسات العمومية هذا التوهج العلمي الذي يجعل المغرب ذا ريادة أفريقية.
وقد سبق لملك البلاد أن عبر عن المفارقات التي يعيشها المغرب، بين نماذج ناجحة تستقطب الاحترام وتقوي الصورة في العالم، لا من خلال تقوية النسيج الاستثماري، ولا من حيث السمعة في التجربة الديمقراطية والميل السلمي إلى حل الاستعصاءات السياسية والمؤسساتية، والوضع الاجتماعي الصعب، وأحيانا المعاكس، الذي تسير به قطاعات واسعة، تشملها السياسات العمومية.
وقال الملك محمد السادس، في خطاب العرش للسنة الماضية، إن المغرب يعيش "مفارقات صارخة من الصعب فهمها"، فـ"بقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية، قاريّا ودوليا، ومن تقدير شركائنا، وثقة كبار المستثمرين، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم". وأشار الملك إلى أن برامج التنمية البشرية والترابية "لا تشرّفنا وتبقى دون طموحنا"، مرجعا الأسباب إلى "ضعف العمل المشترك، وغياب البعد الوطني والاستراتيجي، والتنافر بدل التناسق والالتقائية، والتبخيس والتماطل، بدل المبادرة والعمل الملموس".
أولا، على المستوى الاجتماعي بالأساس، تعكس كل التقارير، ولا سيما منها الرسمية أو الصادرة عن مؤسسات الحكامة، عن قلق ممض وعميق من التفاوتات الاجتماعية التي ترهق القدرة الذاتية للبلاد للخروج من الترتيب المتدني في لوائح العالم من جهة التنمية البشرية (التعليم، الصحة، القدرة الشرائية، الشغل.. إلخ)، وهي قطاعاتٌ تتميز بأرقامها المثيرة للقلق، إن لم نقل للفزع، وتضع الوضع تحت مظلات التوتر المتوقعة.. وصار الحديث عن التفاوتات الاجتماعية والفوارق المجالية بين الجهات والمدن، من صميم كل التقارير، وفي عمق تقييم السياسات العمومية في المملكة. وأضحى الحديث عن "تعزيز مكافحة الفساد وتعميم المساءلة لتشمل معاقبة الممارسات المنافية للمنافسة والامتيازات، والحد من حالات التأخير في اعتماد القوانين، ونشر النصوص التطبيقية"، خطابا يصدر عن مؤسساتٍ رسميةٍ، وليس المعارضة، كما قد يتبادر إلى الذهن.
ثانيا، على المستوى السياسي المباشر، إذا شئنا، تبدو الحكومة في وضع العاجز أو ذلك هو الانطباع السائد، ومحط انتقاد، كما هو الحال بالنسبة للبرلمان الذي يبدو أنه ليس الفضاء الديمقراطي المؤسساتي الذي يحتضن النقاش العمومي الذي يكرّس سيادته التمثيلية، ويكرسه قاعدة للنقاش العمومي، وحلبة للجواب عن الاحتقان وطرح البدائل.. ولعل الصورة غير المحبّبة التي سادت عنه أنه مؤسسة متأخرة عن الشارع، وعن كل أشكال التأطير المؤسّساتي لما يمور فيه. وهو ما يؤكّد العجز في الثقة لدى المواطنين في قدرة المؤسسات والسياسات العمومية على تحسين ظروف عيشهم، وتعزيز قيمة الاستحقاق، والحد من حجم الفوارق.
ثالثا، أثار الوضع الجديد، في بانوراما شاملة، تفكّك الوسائط التي ظلت هي معابر التعبير السياسي والاجتماعي، وعوّضتها عروض سياسية أو اجتماعية يتقدّم بها الشارع نفسه (احتجاجات الريف، ثم جرادة في شرق المغرب، والمقاطعة الشاملة لبعض المواد، والتي أحدثت خسائر كبيرة)، وهو ما ينم عن تغير في "الإبدالات" السياسية التي تؤطر الوعي بردود الفعل، كما زادتها وسائل التواصل الاجتماعي قوةً وبروزا، حتى أنها أصبحت الفضاء الأكثر تعبيرا عن المزاج العام، وهو ما لم تعد الدولة تغفله في تقديم مقترحاتها أو حلولها، منذ حركة 20 فبراير/ شباط 2011، ذات المدى العميق في التغييرات السياسية التي حدثت في المغرب الجديد.

رابعا، تعمد الدولة، بوضوح كبير، إلى السعي الحثيث، من خلال الدستور، كما من خلال القوانين والعروض السياسية التي تقدمها للنخب، إلى إعادة النظر في طبيعتها الذاتية، والمقصود بها تعميق الجهوية المتقدمة باعتبارها تدبيرا ترابيا للدولة، والخروج من المركزية اليعقوبية والقوية التي طبعت المغرب دوما، وتزايدت، في العهد السابق، وهو خيار استراتيجي يعني أن ملك المغرب يسعى إلى تغيير طبيعة الدولة التي يرأسها، من خلال الجهوية المتقدمة وتقوية اللامركزية الإدارية، وإيجاد توازن جديد للسلطات عبر الدستور، غير أن هذه الإرادة لا تشكل دوما جدول أعمال نخبٍ كثيرة، كما يتضح من درجة انخراطها في النقاشات العمومية التي يتطلبها ذلك (نقاش عام حول النموذج التنموي الجديد، الجهوية الجديدة، الإصلاح الإداري وتقوية اللاتمركز… إلخ). والواضح أن هناك دورة سياسية انتهت، أو أوشكت على الانتهاء، لعل أبرز نقاطها استنفاد الحقل السياسي الوطني لعديد من تعاقداته السياسية (بدخول مكونات من خارج الحركة الوطنية والأحزاب التي ورثتها، ذات شرعية انتخابية قوية)، وتعاقداتها الاجتماعية (استنفاد العقد الاجتماعي أهدافه من خلال تفاقم التفاوتات الطبقية والمجالية، وضعف النسيج الوطني الاجتماعي، والوقوف على ضرورة تجديد الدولة الاجتماعية)، وتعاقداته الاقتصادية (من خلال إعادة النظر في النموذج التنموي الذي طبع التدبير الاقتصادي ونتائجه، وضرورة إعادة النظر في مهام الرأسمال الوطني، والمسايرة الناجحة للتوجهات الكبرى، لا سيما في الاستثمار داخل أفريقيا).
خلاصة القول إن من ميزات الحل السياسي المغربي أن الفاعل المركزي في الدولة، كيانا وجهازا، هو الذي يتحدّث بحقيقة الوضع وعنه، ويرسم لوحةً انتقادية عميقة، تفوق أحيانا ما تقدّمه الأحزاب السياسية، حتى المعارضة منها، كما أن الدولة، كقاعدة للتحولات، هي في الوقت نفسه قاعدة لعقلنة الفعل المجتمعي، من خلال الارتقاء بالطموح الوطني إلى أعلى من العتبة الاجتماعية والمؤسساتية، وتسجيله في أفق حضاري.
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.