عندما ينتظر السودان عودة الصادق المهدي

عندما ينتظر السودان عودة الصادق المهدي

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
دراما جديدة ينتظر أن تعيشها الخرطوم لدى العودة المرتقبة لزعيم حزب الأمة السوداني، الصادق المهدي. ثمّة توتر وحرارة ترتفع مع الأيام بين الخرطوم ولندن، مستبقة تاريخ التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، والذي حدّده المهدي لعودته. وكخطوة للتعبئة والتصعيد من حزب الأمة، استبقت نائبة رئيس حزب الأمة ونائبة الأمين العام لنداء السودان المعارض، مريم الصادق المهدي، والدها إلى الخرطوم يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. وفي اليوم السابق لعودتها، أصدرت نيابة أمن الدولة أوامرها بالقبض على الصادق المهدي وآخرين، مستندة في ذلك إلى فقراتٍ من القانون الجنائي. وبموجبها، المهدي متهم بتقويض النظام الدستوري، والتحريض ضد الدولة وإشاعة الفتن والتجسس ونشر الأخبار الكاذبة، تضاف إليها إحدى مواد قانون مكافحة الإرهاب. ولا يخرج الأمر بصورته هذه عن مسار علاقة الحب والكراهية المجرّبة بين الصادق وحكومة الرئيس عمر البشير. وكثيرة المرّات التي وُضع فيها رأس المهدي تحت مقصلة الإعدام، ثم يخرج مفاوضا مشاركا في الحوارات، ومهادنا يرفض العنف وينفر منه، ويصبح أقرب منه إلى الحكم من تطلعات الشارع بالتغيير. كما أن مثل هذه الاتهامات المتكرّرة من الحكومة تثير الحيرة، وأسئلة عن مغزى اعتقال أقرب المعارضين إليها، فالصادق المهدي هو المعارض الوحيد الذي امتدت يده دوما للتفاوض مع الحكومة، ووقع أكثر من مرة اتفاقات مع الحكم، كما لم يفعل أي تنظيم معارض في السودان. ولسنوات ظل لغز نجله الأكبر عبد الرحمن، وعمله مساعدا للرئيس البشير، وهو المرشح الأوفر حظا لخلافة والده على رئاسة الحزب، بحكم البنية الطائفية للحزب. وهي النقطة المثيرة للجدل، والتي تطرح سؤالا يصعب تفسيره في التوفيق بين معارضة الصادق، رئيس الوزراء الشرعي كما يدّعي، وابنه الذي يذهب بعيدا، على فرض أنه سيد قراره ليصبح مستشارا ومساعدا للرئيس المطلوب أمام الجنائية الدولية. ويطلق معارضون وممتعضون على هذه الحالة "الأرجل الطائفية" داخل الحكم، في إشارة إلى أن نجل المعارض الآخر، وزعيم الحزب الوطني الاتحادي، محمد عثمان الميرغني، يعمل مساعدا للرئيس عمر البشير أيضا.

ومهما كان، فإن العبارات النارية التي أطلقتها مريم الصادق، وتحدّيها الحكومة والأمن، مُقسّمةً بأن "لا إنس ولا جان بيمنعنا عن وطننا السودان"، تدخل حدّة في قاموس الخطاب بين الأمة والحكومة. وقد أبدى حزب الأمة نفسه، في بيان صدر في أم درمان، امتعاضا من توعد الأمن باعتقال المهدي، وقال إن تلك الأوامر "صادرةٌ عن أنفسٍ تملكتها شهوة السلطة المغتصبة، وتريد أن تذيق الشرفاء من كأسِ التهم الموجهة إليها". ويؤكد الحزب أنه "غير آبه لتدابيرهم، لذلك فإن الإعلان المنسوب لنيابة أمن الدولة لا يعنينا في شيء، ولا يرفع حاجباً بالدهشة، بل هو يشبه فعل نظامٍ بائس فاقد للبوصلة والصلاحية".
واللافت أن الأجهزة الأمنية لم تتعرّض لمريم لدى عودتها، وهي خطوةٌ فتحت الباب أمام تكهنات حملتها صحف الخرطوم بأن ثمّة مفاوضاتٍ تجري بين حزب الأمة والحكومة التي تطالب الصادق المهدي بنبذ العنف والبعد عن تحالفاته مع الحركات المسلحة المنضوية في تكتل نداء السودان الذي يتزعمه، على أن حزب الأمة نفى، في بيانه، كل ما يثار عن حوار مع الحكومة متمسّكا بقرارات "نداء السودان" ووحدة العمل المعارض "لإزالة نظام الجور والاستبداد والدم والجوع والفساد، واستمرار التعبئة الجماهيرية من أجل نظام جديد"، وفقا للبيان.
ليست هذه اللغة المتحدّية والواضحة جديدة، ولا غريبة عن حزب الأمة، لكنها لا تلغي الحقائق أن الصادق المهدي نفسه، وبالتجربة، هو الذي يحدّد القرار النهائي للحزب، بمعنى أن المهدي تاريخيا، وفي أكثر من موقف وحالة، كان يخالف قرارات المكتب السياسي لحزبه، ويقود الحزب إلى الوجهة التي يريدها. وينتهي الأمر، في كل مرة، إلى اتفاقٍ محيّر مع الحزب الحاكم، وتقارب مثير للقلق بين صفوف حزبه. والثابت أنه، وفي لحظات المد الجماهيري المناهض لحكم البشير، يقع التناقض الصارخ في المواقف بين قواعد الأمة التي تتخذ موقعا متقدّما بين الصفوف في الشارع، وموقف قيادة الحزب، والصادق تحديدا، والذي لا تعوزه المبرّرات من إعلانه المعارضة المدنية السلمية، وتجنيب السودان مزالق الصدام وحمامات الدم. هذه المواقف والبعد عن المواقف الجذرية تجاه النظام يرى فيها بعض معارضي الحكم أنها أحد الأسباب وراء إطالة عمر الحكم وطوق النجاة المهدوي.
غير أن عودة المهدي، هذه المرة، مختلفة عن كل عودة أخرى سابقة في ظل الحكم الراهن، فهو يعود قائدا لـ"نداء السودان" المعارض، والذي يضم مجموعة من الحركات تحمل السلاح
في إقليم دارفور وولاية النيل الأزرق. وتعود الأزمة الاقتصادية والسياسية، فيما الفساد يتفشّى، والبلاد تقف عند منعطفٍ خطرٍ يهدّد بانهيار الحكم وتفتت البلاد. بمعنى أن الحالة الراهنة تحرم المهدي والحكومة من أي فضاء حقيقي للمناورة، بل إن مضي الأمن في وعيده، واعتقال الصادق المهدي قد يفضي إلى إطلاق شرارة عنف، تقود أنصار المهدي إلى النقطة التي ظل ينافح المهدي سنوات من دون بلوغها. وكذلك سيجد المؤتمر الوطني نفسه أمام خيار عقلاني، يقول بالإقرار بالأزمة الحادّة والتوافق مع الأطراف الأخرى لتجنيب البلاد الأسوأ، أو التعنت والمضي في صحراء الأوهام المهدّدة لمستقبل السودان. وبالتالي، لا مخرج للحكومة سوى الاستماع لكل الأصوات المعارضة والعقلاء الذين ينادون بضرورة الإقرار بالأزمة الشاملة، والتواضع، وببرنامج إسعافي اقتصادي وسياسي عاجل، للخروج بالبلاد من الأزمة الراهنة. وأغلب الظن أن الصادق المهدي سيجد نفسه أمام خيار وحيد، وهو أن يقنع نفسه أولا بأن الحكم يلفظ أنفاسه الأخيرة، واستنفد كل فرصه. وعليه أن يلتزم، هذه المرة، جانب قواعد حزبه، ومعها قوى غالبة تؤمن بضرورة التغيير حتمية لإنقاذ السودان.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.