وداعا لمعايير الإبداع

وداعا لمعايير الإبداع

25 نوفمبر 2018
+ الخط -
سابقا، كان الإبداع يهاب الناقد ويقدره، لذا كان المبدع وهو منشغل بإنجازه الجديد، يفكر حذرا من النقد الذي سيكشف ثغرات وعيوب منجزه الفني، كما يكشف عناصر التفوق والإجادة فيه، فالناقد مزود بأدوات الفحص والتمحيص والإبانة مما يجعل عمله موثوقا به، أحكامه موضوعية ورأيه رأي يؤخذ به من قبل الجمهور ومن المبدعين.
انطلاقا من تلك الحيثيات، صارت الإبداعات الرصينة تؤشر على التروي وبُعْد المعالجة، محترمة مقاييس الجمال والإتقان، وصار المبدعون قلة من الناس القادرين على الصبر تثقيفا وتعلّما وبحثا، علاوة على امتلاك الموهبة المصقولة عبر سنوات وسنوات.
اليوم غاب النقد، وإنْ حضرَ، حضرَ منه الكثير الذي لا تبنى فيه الأحكام على شيء ملموس، يمكن الوقوف عليه في التقييم والحكم. وبهذا صار المبدعون أحرارا، ليس من حيث الموضوعات التي يتطرقون إليها، ولكنهم أحرار في اقتراف الكثير بصدد جمالية الإبداع، فسادت الرداءة بكل الصور. والأنكى أنك تجد ما لا يستحق الشهرة يشهر في طرفة عين وهو لا يحمل من الإبداع أي شيء.
أمام هذا الوضع، تراجع المبدعون الأصيلون، وهم في أسف لما أصاب الإبداع من تردي وضحالة، وبرز مبدعون بأشكال مختلفة وأعداد كثيرة وملفتة، وهم لا يحترمون قواعد لعبة الإبداع ولا يفكرون في النقد الغائب أصلا، ولا يهابون وصمة الرداءة ولا يخشون انتقاد أحد. وهم معذورون في ذلك، فالنقاد، في نظرهم، هم جماهير في كل الأوطان، هم الحُكام والمقيِّمون للإبداعات بمختلف أشكالها.
يمكن للمبدع أن يكتسح صيته كثيرا من الإعجاب في طرفة عين، ليس لأنه مبدع أصيل وحقيقي مُجيد بل لأنه يعرف تسويق نفسه عبر الإعلام، وهو يقرأ شعرا مُرفقا بموسيقى رائعة مظهرا مفاتنه الجسدية (وهي ليست من صناعته)، وكم يكون ذلك ناجحا حين يتعلق الأمر بأنثى جميلة تعرف كيف تعزف على أوتار المشاعر.
بهذه الطريقة، اشتهر مغنون وراقصات وشعراء، واشتهرت لوحات أكثر عناصرها مسروقة أو مقلدة، واختلط الحابل بالنابل.
لا يعني ما أشرنا إليه غياب النقد، وإنما ندرته أو تواجده بشكل غير متزن، فإما أن يكون نقدا للمجاملة أو نقدا هداما مبنيا على الأحقاد والأنانية والمحسوبية.
ويبقى الإبداع إبداعا خالدا، إن تضمن عناصر الخلود في نسيجه، وإلا فهو يعرض نفسه للموت السريع، وقد يموت قبل أن يشهد الكثيرون ولادته، فكم من أغنية صفق لها صباحا لتموت مساء، وكم من قصيدة نالت لايْكاتٍ كثيرة جدا فماتت ودفنت، وكم من فيلم أثار جدالا لكن ألقه انتهى بعد شهر أو شهرين.
الإبداع بعيدا عن معايير النقد الموضوعية إنجاز حر قد ينجح أحيانا لكن إخفاقه متحقق في أحايين كثيرة.
لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني