عن المصالحات المسيحية في لبنان المأزوم

عن المصالحات المسيحية في لبنان المأزوم

25 نوفمبر 2018

البطريرك بشارة الراعي بين جعجع وفرنجية (حسين بيضون)

+ الخط -
لا يخلو لبنان من المفاجآت، حتى وهو غارق في الشلل، واقتصاده مهددٌ بالانهيار، واستقراره الداخلي بالانفجار! قبل أيام، ومن خارج السياق، طوى خصمان مسيحيّان لدودان صفحة من أشد الصفحات عنفا وسوادا في تاريخ لبنان الحديث. تصافح رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، ورئيس تيار المردة، سليمان فرنجية، وتعانقا بمباركة بطريرك الموارنة، بشارة الراعي، في مقر الصرح البطريركي في بكركي، واضعين حدا لأربعين سنة من حالة الخصومة والعداء بين قطبين مارونيين، ينتميان جغرافيا إلى منطقتين متجاورتين في شمال لبنان. كان الأول شريكا في الجريمة الفظيعة التي ارتكبت بحق والدي الثاني. كان لبنان غارقا في حربٍ أهلية مستشرية منذ ثلاث سنوات، حين هاجمت مجموعة من مليشيا حزب الكتائب صباح 13 يونيو/ حزيران عام 1978 دارة النائب طوني فرنجية، والد سليمان، ونجل الرئيس اللبناني الأسبق، سليمان فرنجية، في بلدته إهدن الشمالية، وارتكبت مجزرة ذهب ضحيتها والد سليمان ووالدته وشقيقته و28 آخرون.
كان حزب الكتائب يشكل يومها رأس حربة القوى المسيحية اليمينية التي تسلحت في مواجهة ما اعتبرتها محاولة الفلسطينيين، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، السيطرة على لبنان، وإقامة وطن فلسطيني بديل، مدعومين من جبهة الأحزاب والقوى اليسارية والقومية. وكان الرئيس فرنجية أحد أركان "الجبهة اللبنانية" التي كانت تشكل القيادة السياسية للأحزاب والمليشيات 
المسيحية، إلى جانب الرئيس الأسبق ورئيس حزب الوطنيين الأحرار كميل شمعون ورئيس حزب الكتائب بيار الجميل، وشخصيات سياسية وفكرية أمثال شارل مالك وإدوار حنين وفؤاد أفرام البستاني وسعيد عقل. وإذا كان ما يجمع بين كل هذه القيادات هو التصدّي للوجود الفلسطيني المسلح، والدفاع عن فكرة الكيان اللبناني، فإن الصراع على النفوذ والسيطرة على الساحة المسيحية، وحسابات المصالح المتضاربة، كانت عناصر ضاغطة، كفيلة بتفجير هذا التحالف في أي لحظة. ناهيك عن وقوف "الكتائب" و"المردة" على طرفي نقيض بين إسرائيل والنظام السوري. أما الفتيل الذي أشعل نار الصراع بين الطرفين فكان سعي "الكتائب" إلى استغلال مناخ الحرب من أجل التمدد شمالا، واستقطاب الشباب في منطقة زغرتا، والقضاء على عقر دار فرنجية، فكان صراع بين النفوذ العائلي - العشائري ووهج الانتماء الحزبي المنظم. وإثر اجتماع عاصف لجميع قيادات الصف المسيحي في مقر البطريركية المارونية، قررت الكتائب بشخص نجمها الصاعد وقائدها العسكري، بشير الجميل، الرد على اغتيال أحد مسؤوليها هناك، باغتيال الابن البكر للرئيس فرنجية.
اليوم، ومن وحي جو المصالحة، تقول أوساط فرنجية إن الهجوم على إهدن لم يكن هدفه ارتكاب تلك المجزرة وإبادة العائلة التي نجا منها سليمان الابن بمفرده، والتي دفعت "المردة" إلى شن حرب مطاردة لل"الكتائب"، وتشريدهم من عموم محافظة الشمال، وأدت إلى خروج الرئيس فرنجية من "الجبهة اللبنانية"، وغيرت مجرى الصراع، واصطفاف القوى والمحاور خلال سني الحرب اللاحقة. كما راجت، في ما بعد، فرضية ترجيح دور للنظام السوري في عملية تسهيل ارتكاب الجريمة، بغرض شق الصف المسيحي، على اعتبار أن الجيش السوري كان يقيم حاجزا عسكريا، لا يمكن للمهاجمين الوصول إلى قصر فرنجية قبل تجاوزه. ومن "الأسباب التخفيفية" أيضا أن جعجع نفسه لم يصل إلى قصر فرنجية، لأنه أصيب في الطريق، إذ تم التخطيط للهجوم عبر خطين: قاد الأول إيلي حبيقة، القادم من بيروت على رأس مجموعة، والذي وصل إلى القصر ومر على الحاجز السوري. وقاد الثاني جعجع على رأس مجموعة أخرى، قادما من بلدته بشري. يومها كان عمر سليمان فرنجية الحفيد اثنتي عشرة سنة وجعجع ستا وعشرين سنة، واليوم يرأس فرنجية تيار المردة، وجعجع "القوات اللبنانية" التي خلع من قيادتها عام 1986 حبيقة الذي كان قد توغل بعيدا في علاقته المستجدّة مع النظام السوري. وفي أول محاولة لتطبيع العلاقة عام 1990 بين الطرفين، عبر تعيينهما وزراء في أول حكومةٍ يرأسها عمر كرامي، رفض فرنجية مصافحة جعجع، وانسحب من اللقاء في القصر الجمهوري. وانطلق بعدها الزعيم الزغرتاوي الشاب يشقّ طريقه خلفا لوالده وجده نائبا، ثم وزيرا في معظم الحكومات المتعاقبة، حليفا للنظام السوري، وبالتالي لحزب الله، فيما أدّى تفجير إحدى الكنائس في مدينة جونية عام 1994 إلى توجيه الاتهام إلى جعجع وإدخاله السجن، على الرغم من موافقته على اتفاق الطائف الموقع في أواخر 1989، وتسليمه سلاح "القوات"، وانخراطه في الحياة السياسية، ما أدى إلى منع الحزب ودخول "القوات" في سبات عميق!
وشكلت التسعينيات مرحلة حقبة الوصاية السورية بامتياز، والتي أقامت نظاما أمنيا، وأطبقت سيطرتها على مؤسسات الدولة، ومفاصل القرار حتى عام 2005 الذي شهد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، فكان بمثابة زلزالٍ أدى إلى خروج الجيش السوري من لبنان، وأحدث مفاعيل أخرى، منها خروج جعجع من السجن، وعودته إلى الحياة السياسية. وبعد نحو ثلاثين سنة، يبدو أن الزمن قد فعل فعله لدى الرجلين، إذ يوم خروج جعجع من 
السجن بادر فرنجية إلى الاتصال مهنئا، وراحت المناسبات تتوالى، إلى أن جمع البطريرك الراعي فور انتخابه عام 2011 القادة السياسيين الموارنة الأربعة، لأول مرة في بكركي، أي الرئيس الحالي ميشال عون والرئيس الأسبق أمين الجميل وجعجع وفرنجية الذي أعلن يومها أنه "سامح من دون أن ينسى"، إلا أن المصالحة الفعلية بين الاثنين طبخت على نار هادئة، وبعيدا عن الأضواء. ثم سارعت بها التطورات التي نقلت فرنجية من حليفٍ لصيقٍ لعون وتياره إلى خصم لدود بفعل مضاعفات معركة رئاسة الجمهورية عام 2016 التي كانت قاب قوسين أو أدنى من فرنجية الذي ضمن الأكثرية، لولا المعارضة الشرسة التي أبداها عون واضطرار حزب الله إلى مجاراته.
رئاسة الجمهورية هي الكفيلة باجتراح المعجزات عند السياسيين الموارنة، فكل واحد منهم يطمح لها، ويعتبر نفسه مشروعا رئاسيا، ويسعى لأجلها ما دام حيا. ومفاعيل الرئاسة عند الموارنة مثل لعبة البيلياردو، بإمكانها أن تُحدث انقلابا في المواقف، وتدفع الطامح إلى "نقل البارودة من كتف إلى كتف"! وهذا ما دفع جعجع أخيرا إلى المسارعة إلى مصالحة عون، خصمه اللدود ودعمه للرئاسة، ردا على إعلان حليفه سعد الحريري ترشيح فرنجية للرئاسة، غير أن مصالحة عون وجعجع لم تدم طويلا، وها هي اليوم تقرّب بين جعجع وفرنجية المستاءيْن والمتضرّريْن من رئاسة عون، فالمصالحة بين الطرفين مهمة وضرورية لطي صفحة الماضي وإنهاء أربعين سنة من العداوة، وتهدئة النفوس وترسيخ الوئام خصوصا في محافظة الشمال، وفي نفوس أهالي البلدات والقرى المتداخلة في بعضها بعضا، لكنها أيضا فرصة يسعى كل واحد من الاثنين إلى توظيفها لصالحه، عبر الحصول على دعم الآخر في معركة الرئاسة المقبلة، في مواجهة الطامح الآخر صهر عون، جبران باسيل الداخل حديثا على الساحة. ولكن المفتاح وصاحب القرار الفصل يبقى حتى إشعار آخر حزب الله الذي يتنافس الجميع على كسب ودّه.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.