المغرب.. هل قلتم أزمة وساطة؟

المغرب.. هل قلتم أزمة وساطة؟

23 نوفمبر 2018

مغربية تصوت في الدار البيضاء في الانتخابات النيابية (7/10/2016/الأناضول)

+ الخط -
ترافق الحضور المتنامي لظاهرة الاحتجاج في المغرب، داخل تمثلات الفاعلين والصحافيين والباحثين المغاربة وخطاباتهم، مع عودة متواترة للحديث عن أزمة الوساطة، حيث عادة ما يتم الربط بين ضعف الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والمنظمات المدنية، وبين الإغراء المتزايد الذي بات يشكله الشارع فضاء لممارسة "سياسةٍ" لا تريد أن تخضع لمنطق المؤسسات. وهكذا تصبح فرضية "أزمة الوساطة" تفسيرا مركزيا مهيمنا عند التفكير في تصاعد موجات الاحتجاج الحضري في جيلها الجديد.
لا تنبّه هذه الفرضية، كعادة الصيغ والتراكيب الجاهزة، إلى تعقد الظواهر السياسية، وإلى الحاجة إلى التنسيب في بناء الخلاصات والتحاليل، وإلى ضرورة الابتعاد عن الانطباعات السريعة. لذلك يمكن امتحان صمود هذه الفرضية بمساءلة "بديهياتها"، والتشكيك في "منطلقاتها"، واستحضار أسئلتها المغيبة، من ذلك مثلا السؤال بشأن "تاريخية" هذه الأزمة، وعما إن كانت الفرضية تستبطن نظرةً، غير حقيقية، لماضٍ سياسي قريب، من المفترض أنه كان يعرف تزامنا منسجما بين حقل حزبي قوي وحقل اجتماعي هادئ بلا توترات؟ أو السؤال عما إذا كان ضعف الوسائط الحزبية والمدنية حدثا عرضيا في التاريخ السياسي، أم معطى بنيويا داخل منظومة عامة؟ وعما إذا كان خطاب أزمة الأحزاب الذي تعيد إنتاجه هذه الفرضية مجرّد إعادة إنتاجٍ لسردية راسخة، محملة برهاناتٍ ذات صلة بمنطق الصراع السياسي وبناء الشرعيات؟
تقدّم العودة إلى تاريخ الاجتماع السياسي الحديث للمغرب رؤيةً مغايرةً لما يقدّمه الخطاب 
السريع كعطب مفاجئ، حيث قد تبدو الأزمة تحمل جذورا عميقة، وليست مجرد حادثة سير عرضية، ذلك أن موجة التحولات الاجتماعية الكبرى التي انطلقت من لحظةٍ مركزيةٍ ليست سوى صدمة الاستعمار، وما رافقها من تفكيكٍ واسعٍ للتعبيرات المجتمعية التي كانت تؤمن وظائف التأطير الديني والروحي والتجاري والمهني والاجتماعي والقيمي، تم تعزيزها في سياق دولة ما بعد الاستقلال، حيث تسارع مسلسل تآكل بنيات التأطير التقليدية، من دون أن يسمح هذا التنظيم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الجديد بإنتاج بنياتٍ حديثةٍ وبديلةٍ مطابقةٍ للتحولات المجتمعية العميقة التي مسّت انتقالاته المعقدة من الطابع القروي إلى نمط مديني غالب، ومن العائلة الممتدة إلى نموذج أسري نووي، فضلا عن الطفرة الديمغرافية، وبروز المرأة داخل بنيات الإنتاج والفضاء العام، وتغير مصفوفة القيم.
الواقع أن النموذج السياسي المهيمن في المغرب، في لحظة ما بعد الاستقلال، تميّز بإبلاء الدولة في علاقة مع المجتمع مساحات واسعة من المراقبة والضبط، وهو ما لم يسمح بتطور طبيعي للتعبيرات السياسية والمدنية والنقابية، خصوصا أن إستراتيجية السلطة اعتمدت على خيار التحكّم في التعدّدية ومراقبتها، بل وبناء امتدادات للدولة داخل الحقل الحزبي والجمعوي، وهو خيار وصل اليوم إلى ذروة محدوديته.
ولعل هذا ما يجعل من الشرعيّ إثارة السؤال عما إن كنا نعيش أزمة وساطة، أم أزمة إستراتيجية ضبط مجتمعي.
تبدو فرضية "أزمة الوساطة" كذلك في حالاتٍ كثيرة، وهي تستبطن وتستعير مقولة أزمة الديمقراطية التمثيلية خلفية مرجعية لها، والواقع أن التفكير في ضعف القنوات الحزبية والنقابية آليات للتأطير في التجربة المغربية، باعتباره أثرا مباشرا لأزمة التمثيل، يحمل التباساتٍ كثيرة، ذلك أنه ينقل أزمة الأحزاب إلى سجل ما بعد الديمقراطية التمثيلية، في وقتٍ لا يسمح تقييم السياق السياسي المغربي بمثل هذا "الترف" التحليلي الذي ينطلق من حالة إشباع ديمقراطي "متخيلة".
فرضت التجربة السياسية المغربية نوعا من "التكيف الوظيفي" في استعمال مفاهيم، مثل 
الوساطة أو التمثيل، ذلك أن تصوّرا بشأن العلاقة بين الدولة والشعب ظل سائدا سنوات طويلة داخل "العقل السياسي" للسلطة، قد ركّز كثيرا على نوعٍ من العلاقة المباشرة التي لا تحتاج إلى حجاب، وهو ما جعل وظيفة الوساطة نفسها غير مقبولة كشكل للتدبير السياسي للطلب الاجتماعي والمجتمعي، في الوقت نفسه الذي ظلت الوثائق الدستورية المتواترة قبل سنة 2011 تمنح للمؤسسة الملكية صفة التمثيل الأسمى للأمة، ما جعل باحثين كثيرين يقفون على نوع من ثنائية التمثيل الموزع بين تمثيل أسمى يجسده ملك البلاد وتمثيل أدنى يجسده البرلمان، أو على انزياح وظيفة التمثيل النيابي إلى مجرّد وساطة بين المحلي والوطني.
التفكير في أزمة الوساطة لا يمكن إلا أن يستحضر خصوصياتٍ طبعت الممارسة السياسية، جعلت من معادلة الوساطة والتمثيل تبدو في مراتٍ كثيرة ذات منحى مقلوب، حيث شرعية "الوسطاء" و"الممثلين" تستمد من الأعلى، وليس من المجتمع بالضرورة.
وبعيدا عن السياقات الوطنية، يبدو المناخ العام الذي تمر به السياسة في عالم اليوم مناسبا لانتعاش خطاباتٍ مناهضة للنخب ولآليات التمثيل وللأدوات "التقليدية" للديمقراطية، حيث تبدو الوساطة و"الوسطاء" من نقط الاستهداف المثالي للحمولة النقدية والتشكيكية لهذا الخطاب المتنامي.
ترتبط تحولات الدينامية المجتمعية التي تشهدها دول عديدة، والقائمة على مناهضة مزدوجة للمؤسسة الماسكة بجوهر السلطة وللنخب المحيطة بها، بتراجع الطلب على الوساطة، ضمن إستراتجيتها في التعبئة والاحتجاج والتنظيم، كما ترتبط بطبيعة مضمونها، ذلك أن هذه الديناميات لا تحمل فقط طلبا اجتماعيا على إعادة التوزيع، قد يحتاج إلى بنياتٍ وسيطةٍ لإعادة معالجته، وصياغة مخرجاته، لكنها باتت ترتبط بالأساس بطلب واسع على الاعتراف، ما يمنح الاحتجاج والحركات الاجتماعية الواقفة وراءه بعدا هوياتيا، لا يضع في أجندته رهان البحث عن قنوات للوساطة.
في الأفق التحليلي نفسه، يمكن كذلك استحضار التحولات غير المسبوقة لوسائط التواصل وقنوات الإعلام الجديد في علاقة بالأنماط المستجدّة لبناء القضايا ذات القدرات التعبوية الكبيرة وفي الولوج السهل، غير المشروط بالقنوات الوسيطة، إلى المجال العمومي. وقد يسمح تحليل الخطابات المتداولة حول الموضوع والسرديات المحيطة به، في النهاية، بكشف الرهانات الموجودة وراء فكرة "أزمة الوساطة"، ذلك أن هذه الأزمة ليست كذلك في خطابات المحتجين كذلك، الذين يقدمون أنفسهم بديلا عن "وساطة" بدون شرعية، أو عن "تمثيل" مصطنع.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي