الفلسفة ومآزق ديمقراطيتنا

الفلسفة ومآزق ديمقراطيتنا

22 نوفمبر 2018
+ الخط -
يحتفل العالم سنوياً، في الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني باليوم العالمي للفلسفة، مستهدفاً ترسيخ التقليد الذي سَنَّتْه منظمة يونسكو سنة 2002، لتحسيس الرأي العام بأهمية الفلسفة وأدوارها في التاريخ. وغالباً ما لا تجد هذه الذكرى صدىً يُذْكَر لها، في مجتمعنا وثقافتنا. فقد أغفلت بلدان عربية كثيرة تعليم الفلسفة في مدارسها وجامعاتها، ولم تكتف بذلك، بل هَمَّشَتْها وصنعت لها مُسَمَّياتٍ لا علاقة لها بروح الفكر الفلسفي.
تَمُرُّ الذكرى السنوية، ولا تترك أي إشارةٍ إلى حاجة ثقافتنا إلى فتوحات الفكر الفلسفي ومكاسبه، في المعرفة والسياسة والتاريخ، حيث ما تزال مؤسّساتنا في التربية والتكوين، وقنوات إعلامنا ووسائط تواصلنا، تحتضن ثقافةً تُعْنَى أساساً بنشر كل ما يُسَوِّغ قِيَم الولاء والطاعة وتعميمه، ويغذّي كل ما هو تقليدي ومتخشِّب في فكرنا وتاريخنا. وفي هذا الأمر استهانةٌ قصوى بأدوار الفاعلية النظرية للإنسان، واستهانة أيضاً، بتطلعات نخبنا، إلى بناء مجتمعات العقل والحرية والعدالة.
يدعونا حلول ذكرى اليوم العالمي للفلسفة في الراهن العربي إلى مواصلة المطالبة، أولاً وقبل 
كل شيء، باستحضار وتوطين دروسها وأدواتها في ثقافتنا، فقد ساهم تقليص مساحة حضورها في فكرنا، وفي عمليات الانتشار السريع للقيم التي عَمِلَت الفلسفة عبر تاريخها على نقدها ومحاصرتها، نقصد بذلك قِيَم البلاهة في الفكر والتطرّف في المجتمع، وما يرتبط بذلك من صُور التعصُّب وأنماط الكراهية داخل المجتمع.
نواجه اليوم في مجتمعاتنا العربية سؤال الديمقراطية، وما يرتبط بها من قيم الحوار والتوافق والتعاقد والتسامح، الأمر الذي يُشْعِرُنا بأن جزءاً كبيراً من مآزق الديمقراطية وتحدّياتها في مجتمعنا وثقافتنا، ترتبط، في بعض أوجهها، بالتغييب الذي لَحِقَ مطلب العناية بالفلسفة، وترسيخ قيمها في السياسة والتاريخ. صحيحٌ أن مجتمعاتنا توفر بعض متطلبات الفعل الديمقراطي، المادية والشكلية، إلا أنها تغفل شروطه الأساس، في المعرفة والأخلاق، وشروطه الكبرى في تهييئ التربة الاجتماعية والثقافية المناسبة لمقتضياتها، وهو ما يدفعنا إلى الدعوة إلى مزيدٍ من الاهتمام بالفلسفة ومفاهيمها، انتصاراً لكل ما يُسِعِف بتمهيد الطريق لترسيخ الديمقراطية وآلياتها في الحوار، وفي توسيع المشاركة السياسية والتضامن.
لا يتعلق مبدأ انتصارنا للفلسفة ومفاهيمها وقيمها بفلسفة محدَّدة، أو تيار فلسفي بعينه. إننا نروم أساساً إبراز أهمية الفاعلية النظرية التي رسَّمها ورسَّخها درس الفلسفة في التاريخ، حيث تتسع وتتنوَّع مجالات وحدود درسها ومكاسبه، في السياسة وفي الثقافة والمجتمع. يساهم حاضر الفلسفة اليوم في توسيع آليات عملها في معارف وخطابات وفنون عديدة، الأمر الذي يؤسِّس لعمليات إعادة انتشار وتعميم للفلسفة ومآثرها، حيث تمارس جهودها في الفكر المعاصر عملية ابتكار متواصلة لمفردات ومفاهيم في مختلف مجالات المعرفة والقيم والإبداع.
يمكن تفسير كثير من صور الفوضى التي تملأ اليوم فضاءات وسائط تواصلنا، والتضخُّم 
الملحوظ في القنوات التي تتاجر بكل ما هو غريبٍ في ثقافتنا وتاريخنا، بسبب استمرار محاصرة مساحة العقل والنقد وتقليصها في ثقافتنا. وإذا كانت جوانب عديدة في ثقافتنا تشير إلى مظاهر انتعاش خطابات التمذهب العرقي والعقدي، وخطابات البلاهة والهذيان، حيث تمتلئ شبكات التواصل بكثير من الضجيج والفوضى، فإن هذا الأمر يدعونا، وربما أكثر من أي وقت مضى، إلى استئناف عمليات توطين القول الفلسفي في ثقافتنا، وفي مختلف أسلاك تعليمنا، الأمر الذي يمكننا، عند حصوله، من التدريب على مسائل الانفتاح والحوار، ومعاينة أدوار العقل في التاريخ. تستدعي مواجهة مفردات لغة اليقين والقطع، المهيمنة على كثير من خطاباتنا، مواصلة الجهود الهادفة إلى مزيد من الانفتاح على قيم الفلسفة ومفاهيمها وآليات بنائها للنظر والعمل.
ارتأى صاحب هذه السطور توجه الاهتمام، هذه السنة، في موضوع اليوم العالمي في الفلسفة إلى موضوع الديمقراطية، باعتبار أنه من الموضوعات المشخِّصة لجوانب كثيرة من التحول المعاق في حاضرنا. وبحكم أننا نعتبر أن دروس الفلسفة الحديثة والمعاصرة في مجالات السياسة والأخلاق، تتيح لنا عندما نتمكّن من نشر وتعميم مبادئها ومفاهيمها، بناء الخيارات السياسية الديمقراطية ودعمها في فضائنا السياسي، فنتمكّن من مواصلة الدفاع عن السياسة باعتبارها مجالا مستقلا، حيث تُبْنَى التوافقات والمواثيق التاريخية الجماعية، بفضل الإرادات البشرية الرامية إلى بلوغ أهداف مُعْلَنةٍ وواضحة. وإذا كنا نعرف أن أغلب المجتمعات العربية تواصل، إلى حدود يومنا هذا، طمس القول الفلسفي ومحاصرته في مدارسنا وجامعتنا، فإن النتائج المترتبة عن ذلك في واقعنا تعبر عنها مختلف صور الوعي التي تنتشر اليوم في إعلامنا ووسائطنا الاجتماعية، فتمتلئ فضاءاتنا الرقمية بكثير من الضجيج والفوضى، وتتناسل قنوات الهذيان، لتمهد الطريق لأوثانٍ كثيرة، قديمها والمستجد، ولا نتمكّن من مغادرة حصون التقليد وأسواره التي تُكَبِّل عقولنا وتنشر مناخات البلاهة والأحكام المسبقة في مختلف جوانب ثقافتنا.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".