إدارة التناقضات في الشمال السوري

إدارة التناقضات في الشمال السوري

21 نوفمبر 2018
+ الخط -
يتمتع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بقدرات لافتة في إدارة التناقضات والفصل بين الملفات، ففي وقتٍ كان يخوض فيه صراعا كبيرا مع إيران في سورية خلال الأعوام 2011-2015، كانت علاقات بلاده التجارية معها تزدهر، لا بل تحوّلت تركيا إلى الرئة التي تتنفس منها إيران في ظل العقوبات الصارمة التي فرضتها عليها واشنطن دوليا، لإرغامها على تسليم برنامجها النووي. ومازالت قضية بنك خلق التركي، ورئيسه حاقان أتيلا، المعتقل في الولايات المتحدة منذ مايو/ أيار 2017، بتهمة مساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات، تتفاعل بانتظار حلها.
لا تختلف علاقة الرئيس أردوغان بروسيا كثيرا، ففي وقتٍ كان يحتفل مع الرئيس بوتين بإنجاز المرحلة البحرية من خط السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى تركيا وأوروبا، ويعد بتعاون اقتصادي مديد مع موسكو، كان الخلاف محتدمًا بين الطرفين بشأن موضوع اللجنة الدستورية السورية، والتي يسعى كل طرف إلى تشكيلها بصورة تلائم مصالحه، فيما اتفاق سوتشي بشأن إدلب يكافح من أجل الصمود.
لكن قدرات الرئيس أردوغان هذه سوف تواجه، في المرحلة المقبلة، اختبارا كبيرا في الساحة الأهم بالنسبة الى تركيا، وهي سورية. هنا، وتحديدا في الشمال السوري، يواجه أردوغان معضلة إدارة مجموعة هائلة من التناقضات التي تتأثر، ليس فقط بتغير المصالح والسياقات، بل أيضا باختلاف الظرف والمكان.
ينقسم الشمال السوري إلى قسمين رئيسين، مناطق شرق الفرات، حيث تسيطر "وحدات حماية الشعب" الكردية (عدو أنقرة الرئيس) بدعم من الولايات المتحدة (حليف أنقرة الرئيس في حلف الناتو). ومناطق غرب الفرات حيث تسيطر تركيا مباشرة، أو عبر حلفائها في المعارضة السورية، على مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" التي تمتد من جرابلس، عند نقطة دخول نهر الفرات إلى الأراضي السورية، وصولا إلى محافظة إدلب (جنوب غرب).
كان وجود تركيا في مناطق غرب الفرات مرتبطاً دائمًا بموافقة روسيا، وحصيلة اتفاقات ثنائية بين الطرفين، إذ تمت عملية درع الفرات في شهر أغسطس/ آب 2016 مباشرةً بعد تحسّن العلاقات التركية - الروسية، إثر مساندة بوتين أردوغان في مواجهة المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز من العام نفسه. حصل الأمر نفسه في عملية غصن الزيتون، عندما وافقت روسيا على اقتحام تركيا منطقة عفرين مطلع العام 2018، وطرد قوات الحماية الكردية منها، مقابل تعهد تركيا "بإقناع" المعارضة السورية المشاركة في مؤتمر سوتشي "للحوار الوطني السوري". لكن الوضع في إدلب بدا مختلفا بعض الشيء، وعلى الرغم من أن اتفاق سوتشي لإنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب جاء حصيلة تفاهمات روسية – تركية، إلا أنه ما كان ليتم، لولا الدعم الأميركي المفاجئ لتركيا في موقفها بخصوص إدلب، ذلك أن قمة طهران التي سبقت سوتشي بعشرة أيام كانت تشير إلى أن الأمور متجهة نحو معركة كبرى في إدلب.
بات معروفا اليوم أن واشنطن لعبت دورا رئيسا في كبح جماح عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب، ذلك أن مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، أجريا، بناء على طلب ترامب، اتصالاتٍ عاجلة بالروس، وأبلغوهم بالموقف الأميركي الرافض بقوة هجوما على إدلب. ترافق ذلك بتهديدات أميركية باستخدام القوة، في حال تم هذا الهجوم، واستخدمت فيه أسلحة كيميائية. فوق ذلك، طلبت واشنطن من أنقرة تعزيز وجودها العسكري في إدلب، لمنع إيران من السيطرة عليها، وأبدت استعدادا لدعمها في حال حصول مواجهة.
وفيما يبدو أن تركيا تعتمد على دعم أميركي للاحتفاظ بإدلب، يبدو المشهد مختلفا كليا في مناطق شرق الفرات. هناك تبدو تركيا أقرب إلى مواقف روسيا وإيران، اللتين تسعيان إلى إخراج الأميركيين من المنطقة. وتعج وسائل إعلام بتكهنات عن استعدادات تركية للتعاون مع خصومها في مناطق غرب الفرات، لجعل حياة حلفائها الأميركيين صعبة في مناطق شرق الفرات. كما تنظر تركيا في إمكانية المساعدة في عودة النظام إلى السيطرة على المنطقة، لقطع الطريق على الأجندات السعودية والإماراتية التي تشارك الأميركيين في دعم الأكراد! إذا نجحت تركيا في إدارة هذه التناقضات، تكون قد تعلمت الكثير، فينا.