وداعاً لمن "عاش مرتين"

وداعاً لمن "عاش مرتين"

03 نوفمبر 2018
+ الخط -
شابٌ يخفي منشوراتٍ شيوعيةً داخل ملابسه، ليتسلل بها إلى الطابق العلوي من مسجد السيد البدوي في طنطا، ليلقي بها فوق الخارجين من صلاة الجمعة، ويهبط مسرعاً ليشاهد الأوراق تهبط ببطء على المصلين. بهذا المشهد الدرامي، بدأت الحياه السياسية، وربما الصحفية، لحمدي قنديل، حسبما يروي في مذكّراته "عشت مرتين".
لاحقاً، شهد واقعةً أخرى، لعل لها دوراً عميقاً أيضأً، حين شارك في مظاهرات 1954 اعتراضاً على عزل محمد نجيب، فتعرّضت المسيرات للقمع والاعتقالات، اختبأ في كراج عمارة، ومنها شاهد ضابطاً يصيح فيمن تبقى منهم "هرجعلكو تاني يا ولاد الـ....".
لعل المرء يتساءل عن النفسية التي شعر بها من ظل ستين عاماً بعد هذه الواقعة يسعى، بشتى السُبل، إلى تحقيق ما يؤمن به، بينما ظل أمامه الضابط نفسه بوجوه مختلفةٍ دائماً ينتقم وينتصر.
ولعل في هذا أيضاً تفسيرا لانتقال معارضين راديكاليين عديدين شباب إلى أنماط من المعارضة الإصلاحية مع تقدّمهم في السن، وإدراك تعقيد ما يواجهونه.
وعلى الرغم من انتقال قنديل إلى العمل داخل التلفزيون الحكومي للدولة، والتزامه الدائم بسقفٍ ما فهو لم يدعُ مثلا إلى إسقاط جمال عبد الناصر أو رحيل حسني مبارك، لكن هذا أيضاً لم يحمِه، وهكذا كانت تجربته الأولى مع الإيقاف مع برنامجه الأول "أقوال الصحف" عام 1961 في عهد عبد الناصر، ثم تكرر المشهد نفسه مراراً، مع "رئيس التحرير" في مصر، ثم "قلم رصاص" على قناة دبي ثم قناة الليبية.
كنت طفلاً وقتها أتابعه بشغف في موعده المقدّس لدى أسرتي، حتى أني إلى اليوم أذكر نصاً بعض عباراته. سخريته اللاذعة من كوندوليزا رايس. أول مرة في حياتي أعرف عن قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" حين قرأها بأسلوبه المميز.
وعلى الرغم من هذا النمط الإصلاحي، وأيضاً تأثره سياسياً بتوجهه القومي أولوية، إلا أنه كان في وسعه تغيير سقفه بتغير الموازين على الأرض. وهكذا مثلاً كان تعامله مع آل الأسد في البداية لا يزيد عن محاولة دسّ ما يؤمن به بألطف وسيلة ممكنة، فيروي في مذكراته كيف طرح في حواره مع بشار الأسد سؤالين مباشرين: لماذا لا تطلقون رصاصة واحدة في الجولان؟ ولماذا يوجد في سجونكم معارضون؟ وأنه نصحه، في ختام جلسة أخرى، بقيادة إصلاح داخلي، وكيف انتقل من هذا إلى تأييد الثورة السورية مباشرة بعد وقائع كسر أيدي الرسام علي فرزات وذبح المغنّي إبراهيم القاشوش.
كما لم يدّعِ قنديل مثالية زائفة، سواء سياسياً في نقاشه حول مواقفه بصراحة، وأنه أخطأ في بعضها، أو إعلامياً باعتذاره علناً، على سبيل المثال، عن محاورة إخوان سجناء عام 1965، بل مراجعته حواره مع الأسير الإسرائيلي، عساف ياجوري، أو شخصياً حتى أنه يروي في كتابه مثلاً كيف تفاوض مع صفوت الشريف بشأن أجره ليحصل على نسبة من الإعلانات.
لم يكتف قنديل بدوره الصحافي، بل شارك في العمل السياسي المباشر، وأبرز محطاته الجمعية الوطنية للتغيير بطبيعة الحال، والتي وجّه لاحقاً نقداً حاداً لطريقة إدارة محمد البرادعي لها.
تعرّض قنديل، في ختام حياته، لمرارة ظلم ذوي القربى. يروي كيف طُرحت فكرة عودته برنامجه بعد الثورة مباشرة، ليفاجأ برفضٍ من تجمعات "للثوار" من موظفي التلفزيون الشباب، على اعتبار أنه ليس من "أبناء ماسبيرو". يُقال هذا لمن كان يذهب إلى عمله هناك على السقالات في أثناء بناء المبنى، ولمن غطّى باسم ماسبيرو حرب اليمن ونكسة 67 وغيرهما.
ثم كانت الواقعة الأكثر مرارةً، وهي تعرّضه لهجوم حاد ومهين من شباب "ثوري" في مؤتمر تأسيس التيار الشعبي نهاية عام 2012، بسبب اعتبارهم له من المسؤولين عن حكم محمد مرسي مصر، ودعم الإخوان المسلمين، بسبب مشاركته في "مؤتمر فيرمونت". وفي الوقت نفسه، تعرّض لهجوم مقابل من شباب "الإخوان" باعتباره معارضاً لهم. قال إنه لا يصدق مدى سفالة الرسائل التي كانت تأتي إليه. قال إنه تدهور بعدها صحياً، ولم يتعافَ بتاتاً.
وداعاً لمن "عاش مرّتين"، بحياته الثرّية، وبحيوات كل من أثّرت فيهم سيرته.