حلمت أنني أطير

حلمت أنني أطير

03 نوفمبر 2018

طيور تحلّق أثناء شروق الشمس في اسطنبول (30/10/2018/الأناضول)

+ الخط -
ما أن دخلت الطائرةُ في وسط كتلة الغيوم، نظرت من النافذة لأرى ما بقي باديا من التضاريس الأرضية في الأسفل. كل شيء بدا صغيرا جدا، المدينة، البنايات الشاهقة، الطرقات والجسور، الجبال العالية، الطائرات الضخمة في أرض المطار الذي يختفي شيئا فشيئا، كل شيء بدا كما لو أنه منمنماتٌ صغيرةٌ في عيني عملاقٍ وجد نفسه في بلاد الأقزام. كان ذلك قبل سنوات طويلة جدا، حين سافرت جوا أول مرة في حياتي، ولأول مرة شعرت كم أننا، نحن البشر المتنمرين على الطبيعة وعلى باقي المخلوقات، لا أحد، لا قيمة لنا حين نتمكّن من رؤية وجودنا من الأعلى، من نحن في هذا الكون؟ لامرئيون ومختفون وزائلون، قياسا إلى اتساعه وعظمته، على أن ثمّة قوة خارقة فينا اسمها العقل، يمكنها أحيانا أن تقاوم عظمة الكون، وتخضع بعض تفاصيله لتحقيق الأحلام.
ما الذي شعر به عباس بن فرناس وهو يحاول الطيران بجناحين مركبين على ظهره وذراعيه؟ أفكر دائما حينما أرى عصفورا، أو يمامةً، أو طائرا ما، يحلق في السماء بخفّةٍ تتحدّى الجاذبية، أن عباس بن فرناس كان يبحث ربما عن هذه الخفّة، أتخيّله يراقب الطيور المحلقة، ولا مبالاتها بما يحدث تحتها، ويحلم أن يتخفّف مثلها من كل ثقل كتلته التي تشدّه إلى الأرض، أو ربما كان يحلم بالتوازن الذي يتحدّى قوة الجاذبية. طار بن فرناس مسافة قصيرة، لكنه سقط أخيرا لأن جاذبية الأرض كانت أقوى من توازنه، غير أنه أفسح في الطريق لغيره، لوضع معادلاتٍ فيزيائيةٍ، تمكّن الأجسام الثقيلة من الطيران، من دون أن تسقط. استطاع العقل البشري أن يكتشف الخفّة في الأجسام الثقيلة عبر تطويع الفيزياء. نحلم، نحن النساء، بهذه الخفّة، لهذا نرقص أحيانا كما لو أننا نطير، حتى لو كنا من ذوات الوزن الزائد، فالرقص نوع من الطيران. في تقديري أن لفنون كثيرة خواص الطيران، حينما يدخل الفنان في حالة الأداء: رقص أو موسيقا أو غناء أو تمثيل أو رسم أو كتابة، ثمّة خفّة تحدث لا ينتبه إليها أحد، انفصال عن المكان والزمان، هو في الحقيقة انفصالٌ عن الجاذبية، طيران من دون تحليق، رؤية للأرض من مكانٍ مرتفع، يشبه لحظات الاستيقاظ من البنج الطويل إثر العمليات الجراحية، تلك الخفّة المدهشة، والتي تبقى محفورةً في ذاكرة من اختبرها طوال حياته، بل ربما يشتاق لها أحيانا! تشبه أيضا لحظة الوصول إلى الرعشة في العلاقة الحميمة، حيث الدخول في الفراغ المتحرّر من الجاذبية، هل للموت الخفّة نفسها؟ هل تخرج الروح من الجسد وتحلق كطائر خفيف حر لا يبالي بما يوجد في الأسفل؟ ربما كان هذا السؤال أحد أهم أسئلة الفنون، أو ربما هو مركز الاكتشافات والاختراعات، هو المحرّك الرئيس للعقل البشري الذي لم يستطع التراخي مع فكرة الزوال والفناء، وظل يجرّب ويختبر، في محاولة للفهم والإجابة عن سؤال الموت، من دون جدوى حتى الآن.
استيقظت يوما وثمّة بهجة مفاجئة في داخلي، تذكّرت أنني كنت أرى حلما جميلا. عادة، لا أتذكّر أحلامي إلا ما ندر، لكنني تذكّرت يومها ما رأيته في حلمي: كنت أطير بوزني الثقيل ذاته، أطير على ارتفاعٍ عالٍ نسبيا، تحتي مروجٌ ووديانٌ خضراء، وأنا أنتقل من واحدٍ إلى آخر بخفّة طائر مسحور بالجمال الذي يراه في الأسفل. لم أنظر إطلاقا إلى الأعلى، كنت أنقل نظري بين امتدادات الأخضر وتموّجاته، ويعلو جسدي إذا ما مررتُ فوق مرج، ثم ينخفض حين أمرّ فوق واد. لم أكن في حياتي حرّة، كما كنت في هذا الحلم. لا أتذكّر حتى أنني رأيت نفسي أطير في مناماتي قبل تلك الليلة، مع أن حلم الطيران من الأحلام التي يكاد يراها جميع البشر. عباس بن فرناس ومن لحقوه، جميعهم، كما أعتقد رأوا هذا الحلم يوما قبل أن يربط فرويد حلم الطيران بالرغبة الجنسية! هل خفّة الرعشة المشابهة لخفة الطيران هي ما جعلت فرويد يفسر حلم الطيران هكذا؟ قال لي طبيب صديق يومها، وأنا أحكي له عن الخفّة التي شعرت بها في أثناء الحلم: "هذه من حالات ارتفاع الضغط الشديد في أثناء النوم. الاستيقاظ حماك من الموت ربما نتيجة ارتفاع مفاجئ بضغط الدم". أعترف أنني كرهته يومها لردّه القاسي، غير أنه أجابني عن سؤال الخفّة من دون أن يدري.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.