بين عاصفتي الحزم وخاشقجي.. حدود الفاجعة

بين عاصفتي الحزم وخاشقجي.. حدود الفاجعة

03 نوفمبر 2018
+ الخط -
اختفى الصحافي السعودي، في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في قنصلية بلاده في اسطنبول. وبعد أكثر من أسبوعين، اعترفت العربية السعودية بمقتله. وفي حين لا يزال غموض يكتنف تفاصيل الجريمة المروّعة، فإن ردود الفعل الدولية الغاضبة ضد النظام السعودي مستمرة في مطالبها بكشف الحقيقة، ومحاكمة القاتلين والاقتصاص منهم، بما يضمن تحقيق العدالة لخاشقجي، إلا أن العالم الطيب الذي أرعبه اختفاء الرجل لا يعرف ربما، أو لا يريد أن يعرف، أنه ومنذ هذه الواقعة، أخفت غارات طيران التحالف العربي في اليمن، الذي تقوده السعودية، أكثر من خمسين مدنياً من اليمنيين من على وجه الأرض، مقوّضة حياتهم وحياة أحبتهم. وفي حين لا يمكن قياس حدود الفاجعة في الجريمتين، ولا حتى اختبار معنى الإنسانية ومضامينها وأوجهها الفريدة، فإن يمنيين كثيرين آلمهم ما حدث للصحافي خاشقجي يأملون أن تكون عدالة قضيته مدخلاً إلى عدالة كل اليمنيين البسطاء، بدءًا بمساءلة السعودية وحلفائها عن حربها في اليمن، وتحديداً عن جرائمهم في حق اليمنيين.
لا يمكن، في أي حال، اجتزاء معنى العدالة وسياقاتها، وتكييفها وفق وجهة إنسانية متحيّزة لقضية دون أخرى. لذا لا يمكن فصل قضية الصحافي جمال خاشقجي، ببشاعتها ودمويتها، عن الفعل الدموي اليومي الذي ترتكبه السعودية، وحلفاؤها في اليمن. وفي حين يراهن أدعياء كثيرون على فصل مسار القضيتين، فإن سياقات الحرب في اليمن سوف تتأثر سلباً أو إيجاباً بالطريقة التي ستغلق بها قضية خاشقجي، إذ إن ارتهانها إلى تسوية سياسية ترضي السعودية وتخدم حلفاءها يعني استمرار تجاهل المجتمع الدولي للحرب في اليمن، في حين أن انتصار العدالة لخاشقجي ومحاكمة قاتليه قد يؤدي، في النهاية، إلى رفع الوصاية السعودية عن اليمن، وكذلك فتح العالم عينيه حيال المأساة الإنسانية لليمنيين، إلا أن هذه التأثيرات مرتهنةٌ، في المقام الأول، بمدى حساسية المجتمع الدولي وصحوة ضميره في تعاطيه مع الأبعاد الإنسانية للجريمتين، وربط مسارهما.
تتقاطع الأبعاد الإنسانية والسياسية لقضية الصحافي جمال خاشقجي مع جرائم السعودية في 
اليمن، باعتبارهما الوجه الأكثر بشاعةً لنظام يقتل الأبرياء، ويفلت دائماً من العقاب، بسبب تواطؤ العالم ورغبة الأقوياء، إذ أعادت الرواية الرسمية السعودية في واقعة خاشقجي إلى الأذهان الروايات السعودية لضحايا غاراتها في اليمن، فعدا عن الخفّة السياسية وعدم التعاطي بمسؤولية أخلاقية مع تبعات أفعالها، فقد أثبتت روايتها المخجلة الافتقار للمنطق، وفقر الخيال، إذ كيّفت الجريمة باعتبارها حادثا عرضيا ناجما عن مشادّة كلامية، تماما كتفسيراتها حيال مقتل المدنيين اليمنيين، ضحايا غاراتها، إذ ظلت تلك الجرائم أحداثا عرضيةً تتوافق مع القانون الدولي الإنساني، إضافة إلى المفارقة المحزنة في القضيتين، وهو أن السعودية هي من يتولى التحقيق في جرائمها، وذلك بهدف التنصّل من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والسياسية عن هذه الجرائم، باعتبارها الطرف المنتهك، وتحميل آخرين المسؤولية، كما أن تعمّد النظام السعودي الإفلات من العقاب حيال جريمته في قتل خاشقجي أعاد إلى الواجهة الإعلامية مسلسلا طويلا وعبثيا أدارته السعودية بحرفية، جعلها تتجاوز القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، كما أن خضوع القضيتين لموازين السياسة الإقليمية، بما في ذلك الصفقات المبتذلة يجعل منهما محكّاً أخيراً لاختبار ضمير العالم.
يدرك النظام السعودي، أكثر من غيره، أنه أصبح محاصراً من حلفائه قبل خصومه، وأن تداعيات قضية خاشقجي قد تؤثر، بشكل مباشر أو غير مباشر، على مجريات حربه في اليمن، إذ لا بد أن يعيد العالم مقاربتة نتائج التدخل العسكري للتحالف العربي، بما في ذلك الخسائر البشرية للمدنيين، وتفتيته الهوية الوطنية، وتقسيمه البلاد؛ ففي حين صعّدت السعودية وحليفها الإماراتي، منذ مقتل خاشقجي، عملياتهما العسكرية في اليمن، فإن تلك العمليات ليست سوى محاولة من النظام السعودي لكسب ولاء حلفائها المحليين في اليمن، لمواجهة الأزمة التي تعصف بكيانها السياسي، إضافة إلى محاولة هذا النظام أن يبدو لا مبالياً حيال الضغط الدولي عليه، وإيهام العالم أنه سيمضي في حربه في اليمن، حتى لو قتل وأخفى آلاف اليمنيين الذين لا تختلف سرديتهم عن سردية خاشقجي. لكن خشية النظام السعودي من تداعيات قضية القنصلية في إسطنبول على سياقات الحرب في اليمن جعلته يسعى إلى امتصاص نقمة المجتمع الدولي حيال الكارثة الإنسانية المتنامية، وذلك بإعلانه تقديم مساعداتٍ إنسانية لليمنيين بشكل مفاجئ، كما دفع حلفاءه المحليين في اليمن إلى تأييد سياسته الداخلية في قضية خاشقجي، وهو ما تجلّى في تضامن السلطة الشرعية وأحزابها السياسية، وكذلك المجلس الانتقالي الجنوبي، الحليف المحلي للإمارات، وهو ما يبدو خشيةً يمنيةً أيضاً من ارتدادات قضية خاشقجي على قدرة السعودية وحلفائها في استمرار حربهم في اليمن.
يكشف التصعيد الدولي تجاه النظام السعودي عن عدم جديةٍ في محاسبة هذا النظام حيال جرائمه، إذ لم يتخذ مطالبته بفتح ملف انتهاكات النظام السعودي حقوق الإنسان في الداخل 
السعودي أو في اليمن، وانما اتخذ بعداً مغايراً، تركّز في سياق حظر توريد الأسلحة للسعودية، حيث أعلنت دول أوروبية أخرى، في مقدمتها ألمانيا، وقف صفقات السلاح مع السعودية، ففي حين رفضت أميركا وفرنسا وقف صفقات الأسلحة مع السعودية، وهو ما يعني تأثر الحرب في اليمن بتداعيات قضية الصحافي خاشقجي، إذ إن وقف تسليح السعودية قد يسهم في تقليص عمر الحرب في اليمن، إضافة إلى أن الضغط على جماعة الحوثي في الانخراط في التسوية السياسية، مع الضغط الدولي على السعودية، قد يسهم في حل الأزمة اليمنية. ومن جهة أخرى، فإن استمرار الابتزاز المالي للنظام السعودي، من شركائه وحلفائه الدوليين في حرب اليمن، قد يجعله يراجع كلفة حربه في اليمن، حيث بدأت دول أخرى، داخل منظومة التحالف العربي، مثل باكستان، تطالب السعودية، وذلك بعد أزمة خاشقجي، بثمار استمرار تحالفها العسكري في حرب اليمن، وحصلت على ثلاثة مليار دولار، بما في ذلك السماح لها بتأجيل مدفوعات واردات نفطية.
لافتٌ أن مقتل آلاف المدنيين اليمنيين جرّاء السلاح السعودي أربع سنوات من الحرب الدامية، لم يدفع دول الغرب إلى التلويح بوقف صفقات السلاح مع السعودية. وفي حين أن لدى السعودية ما يكفيها من أسلحة لقتل اليمنيين سنوات مقبلة، فإن حظر تسليح السعودية من عدمه متوقف على مصداقية هذه الدول بدرجة رئيسية.
ما بين الانتصار لجمال خاشقجي والانتصار لليمنيين، يقف ضمير العالم على حدود الفاجعة، ربما متفرّجاً على فصول مأساة يمنية لن تنتهي. لكن وعلى سبيل رفع العتب عن عالمٍ لا يرى أبعد مما يريده، يأمل اليمنيون أن ما بعد مقتل خاشقجي ليس كما قبله، وأن الانتصار لخاشقجي وتحقيق العدالة يبدأ من محاكمة النظامين، السعودي والإماراتي، حيال جرائمهم بحق اليمنيين، وأن يحصل الضحايا، أياً كانوا، على العدالة والاقتصاص من القتلة.