يوسف بيدس أو "المواطن كاين"

يوسف بيدس أو "المواطن كاين"

20 نوفمبر 2018

يوسف بيدس.. أسّس امبراطورية مالية انهارت

+ الخط -
لا تبتعد كثيرا شخصية الفلسطيني – اللبناني، يوسف بيدس، عن التي قدّمها المخرج العبقري، أورسون ويلز، في فيلمه الشهير الذي لم تنل منه السنوات، "المواطن كاين" (1941) والذي يروي قصة صعود وسقوط ملياردير أميركي، أسس إمبراطورية مالية من خلال امتلاكه صحفا ومجلات أميركية كثيرة في بدايات القرن الماضي. بل إن شخصية بيدس، الواقعية بمسارها الحياتي، وقصة تأسيسه إمبراطورية إنترا التي اعتبرت من أكبر الشبكات المالية في العالم (1948-1968)، ومن ثم حيثيات إسقاطها الغامضة، وتقاطعها مع تاريخ المنطقة، وما عرفته من تحوّلاتٍ كبرى خلال القرن العشرين، كلّها كفيلة بصنع أكبر الروايات وأجملها، لو كنّا نملك مخيّلة سينمائية، أو روائية فذّة، كالتي يمتلكها كبارُ المبدعين من أمثال ويلز.
كُتبت عن بيدس كتب ومقالات وأفلام، ليس آخرها كتاب "يوسف بيدس إمبراطوريّة إنترا وحيتان المال في لبنان" لكمال ديب، أو وثائقي جورج غانم الذي عرض أخيرا على شاشة "إم تي في". ومع ذلك، ما زالت تلك الشخصية التي يشبه صاحبها ممثلي هوليود في عصرها الذهبي، يثير الحشرية والتساؤلات. يمتلك بيدس قامة كبار المغامرين، أناقَتهم وجاذبيتهم، هو الذي جاء الحياةَ في تاريخ استثنائي (12/12). إنه ابن الناصرة والقدس، وولد خليل بيدس، الأديب والمعلّم، واللبنانية أديل أبو الروس. ترك الدراسة باكرا لإعانة الوالد المريض، فدخل عالم العمل وترقّى سريعا، ليصبح مدير مصرف باركليز في القدس، ويتزوج من اللبنانية وداد سلامة عام 1946. هو أيضا ابن النكبة التي قسّمت فلسطين، وسلبت الناس أرضهم وهجّرتهم إلى بلاد الله الواسعة، هو وعائلته إلى لبنان، حيث سيؤسّس شركة التجارة العالمية، للصيرفة وسواها، وهي ما ستتحوّل لاحقا إلى بنك إنترا.
ساعد بيدس العائلات الفلسطينية على نقل أموالها والاستقرار في لبنان، كما استقطب أموال الطفرة النفطية، حيث لم يكن للخليج بعد مؤسسات مالية أو مصارف قادرة على مواكبة تلك الطفرة. ثم دخل مجتمع رجال الأعمال اللبناني من بابه العريض، فنال الجنسية اللبنانية، وبدأ يعمل على لبننة الاقتصاد اللبناني، بشراء المصالح والامتيازات الأجنبية، وفي مقدمها تلك العائدة لزمن الانتداب الفرنسي. اشترى مجمّع العازارية التجاري، أسهم في شركة الترابة الوطنية، اكتتب أسهما في شركة الفنادق الكبرى التي أسّسها نجيب صالحة وبنت فندق فينيسا الضخم، اشترى أسهم "الميدل إيست" إلى أن أصبحت لبنانية مائة في المئة، ساهم في تأسيس شركة التلفزيون اللبنانية، أسّس مع شريكه، وديع بولس، استوديو بعلبك لإنتاج الأفلام والتسجيلات الفنية، اشترى المطبعة الأميركية، إلخ.
ساهم هذا الرائي والمغامر الكبير في تأسيس بعض كثير مما سيصنع عصر لبنان الذهبي. كان هو ومصرفه إنترا واحدا، بدليل استقلاله بالقرار، وعدم إلزامه بالعودة في قراراته إلى مجلس إدارة البنك. ثم راح بيدس يتوسّع في العالم العربي، ثم في أوروبا وأفريقيا، وصولا إلى نيويورك، وصارت باريس مركز أعماله الثاني.
الرجل جريء وحاذق، والظرف ملائم، وهو يقطف الفرص المناسبة، الواحدة تلو الأخرى، حتى تحوّل إلى قطبٍ دولي، فالفوائد المرتفعة جذبت ودائع الفلسطينيين والرساميل العربية يوم كانت بيروت المركز الأول لأموال نحو ستمائة من أثرياء العرب وحكّامهم، وودائع المصارف الأخرى، المحلية والأجنبية.
ثم بدأت الأمور تتعقّد. راحت المخابرات الغربية، الأميركية تحديدا، تضغط على المصارف في لبنان لتمويل أنشطتها السرية. وكان "إنترا" في الواجهة، فأقام بيدس علاقاتٍ ملتبسة معها، وأدار حساباتٍ سريةً في الخارج. تسرّب الطموح السياسي إليه، وألزمه الضغط السياسي بالتعاون في الفترة التي كانت فيها الشعبة الثانية في الجيش اللبناني تتدخّل في كل الأمور. لذا لا بأس من تشكيل شبكة أمانٍ يصبح فيها المسؤولون اللبنانيون شركاء ومساهمين في "إنترا"، ولا حرج من عدم الالتزام بالقوانين الجديدة التي يمليها مصرف لبنان المركزي على المصارف.
كان يوسف قد رزق بثلاثة أبناء. قيل عنه إنه كان فظّا في التعامل، لا يجيد فن العلاقات العامة، ويُسرف في الشراب، لأنه يخاف ركوب الطائرات ورجال الأمن. يخاف، فيشرب الكحول، ويزلّ لسانه.
عام 1966 انهارت الإمبراطورية مع إعلان إفلاس "إنترا". هرب الرجل إلى البرازيل، ثم سجن في سويسرا، حيث قُبض عليه متخفيا، فحوكم ونقل عنه أنه قال: خطئي الوحيد أني صرت أكبر من وطني. أجل، كان بيدس يعتبر لبنان وطنه، على عكس من تفرّجوا عليه يغرق، وصفّقوا لموت "إنترا" التي تبعها بيدس إلى المقبرة، بعد أن انتزع مرض السرطان حياته، في جنازةٍ حضرها عشرة أشخاص.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"