عن عواء الذئاب الإسرائيلية الجريحة

عن عواء الذئاب الإسرائيلية الجريحة

20 نوفمبر 2018
+ الخط -
منذ توقف العدوان الإسرائيلي أخيرا على قطاع غزة، وسط ما يشبه حالة وقف إطلاق نار إجبارية، ظلت التصريحات والمواقف والتعليقات المتواترة على ألسنة عدد لا حصر له من الكتاب والسياسيين والضباط المتقاعدين في الدولة العبرية، تنضح بالمرارة الشديدة، تعكس مشاعر مفعمةً بالإحباط والخذلان المباغت، وحسّاً جماعياً بوطأة خسارة ثقيلة، إلى حد اعتبر فيه بعضهم اتفاق التهدئة استسلاما، وبعضهم الآخر عدّه فضيحةً سياسية، فيما ذهب زعماء المعارضة إلى وصف ما جرى أنه "عار نوفمبر/ تشرين الثاني الإسرائيلي".
ومع أن في مثل هذه الأقوال تهويلا كثيرا، وتندرج حتماً في سياق لعبة المزايدات الداخلية التقليدية، إلا أن ذلك كله لا يحجب عنا رؤية حقيقة أن إسرائيل في حالة هياج غير مسبوقة، وأن الإسرائيليين الذين سمعوا بوقف إطلاق النار من قناة الجزيرة غير مصدّقين أن يدهم الطويلة لم تكن هي اليد العليا هذه المرّة. وما احتجاجات المستوطنين في غلاف غزة، ومظاهرات تل أبيب ضد التهدئة، فضلاً عن استقالة وزير الأمن، وربما الذهاب إلى انتخابات مبكرة، إلا الدليل بعينه على تكوّن اعتقادٍ واسعٍ لدى الرأي العام بوقوع هزيمةٍ غير متوقعة لدولةٍ قويةٍ ومتعجرفة.
إزاء ذلك، ينبغي مقاربة الموقف المتشكل من رحم المواجهة العسكرية التي أبلت فيها المقاومة البلاء فوق الحسن بدرجةٍ ملموسة، بذهنية متحسّبة لغدر الذئاب الإسرائيلية الجريحة، وبأعلى قدرٍ من المسؤولية. ومن نافل القول التشديد، دائماً وأبداً، على ضرورة الامتناع عن الانجرار، أي أن تعرف القيادة المتأهبة متى تتوقف عن التقدّم في الميدان، وكيف تُمسك باللحظة المواتية، وأن ترى المشهد الراهن، بكل مكوّناته، بعيداً عن التهوين، وبمنأى عن المبالغة في المقابل، فلا المواجهة انتهت، ولا تغيّر يُعتد به حدث على المستوى الاستراتيجي، ومخاطر الانتقام ماثلةٌ ملء السمع والبصر.
لا ضير في قول كل ما من شأنه رفع الروح المعنوية لدى الغزّيين، وذلك واجب، وتعبئة المقاتلين وتحشيد الناس خلفهم، وهو أمر صحيح وعادل بالضرورة، إلا أنه ليس محموداً توزيع الحلوى في الشوارع مثلاً، وليس من المفيد التهديد بحرق الأخضر واليابس أيضاً، والتلويح بأن الآتي أعظم، أو الكشف عن أسلحةٍ تكتيكية جديدة، أي الانزلاق بعينين مفتوحتين إلى لعبة القوة، التي تتقنها إسرائيل وتتفوّق بها على جميع الجيوش العربية، فما بالك وغزة محاصرة، منهكة ونازفة، تنجح في إقامة غرفة عملياتٍ عسكريةٍ كفؤة، وتفشل في بناء شراكةٍ سياسيةٍ مطلوبة؟
بكلام آخر، ينبغي القص على أثر الذئب، وهو يلعق جراحه الراعفة بعد، إن لم يكن من أجل جلبه إلى القفص، فعلى الأقل لرفع مستوى الحذر إزاء غدره المبيت، واحتواء تداعيات ضربة مخالبه الطويلة، لا سيما وأن إسرائيل أبقت على قواتها في وضعية تأهّبٍ كاملة، وتركت لنفسها كل الخيارات مفتوحة، فوق أنها تجري عملية مراجعة صامتة خلف أبواب مغلقة، تعضّ على نواجذها، وتتحيّن الفرصة المواتية لما تعتقد أنه سيعيد ترميم صورتها الإسبارطية الغاشمة، وتعزيز ردعها المتآكل شيئاً فشيئاً مع كل جولة حربية غير ناجزة.
نعرف أن غزة التي تمرّست في الصبر والبأس والمقاومة لا تعرف التثاؤب، ولا تنام على حرير التهدئة، إلا أنها مدعوّة، ويدها على الزناد، إلى إجراء نقاش معمق إزاء متطلبات هذه المرحلة الحرجة، بعيداً عن العواطف والانفعالات، قريباً من سنام المسؤولية، فلا يصح أن يظل القطاع المحاصر مجرد منصةٍ لإطلاق الصواريخ إلى الأبد، وأن يواصل انزلاقه إلى الموت والبؤس والعذابات إلى ما لا نهاية، فيما الطريق الأقصر والأنجع لكسر الحلقة الجهنمية المفرغة مفتوحٌ على اتساعه، ونعني بذلك درب إنهاء الانقسام المشين وتحقيق المصالحة، فلا هذه التهدئة المصابة بهشاشة عظام خلقية، ولا التسهيلات الحياتية التخفيفية لآلام الحصار ومضاعفاته الاجتماعية، وهي في مهب الريح من دون ريب، كافية لمنع حربٍ متدحرجة، ولا تشكل بديلاً عن ضرورة إجراء المراجعات اللازمة، والبناء على ما تحقق من أداءٍ عسكري مشرّف، أحسب أنه يقدم أفضل لحظة للمصالحة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي