دعوة المغرب إلى الحوار مع الجزائر.. الخلفيات والسيناريوهات المرتقبة

دعوة المغرب إلى الحوار مع الجزائر.. الخلفيات والسيناريوهات المرتقبة

18 نوفمبر 2018

الحسن الثاني في ضيافة بن بلّه وبومدين في الجزائر(16/5/1965/Getty)

+ الخط -
تطرح دعوة المغرب أخيرا الجزائر إلى إنشاء "آلية مشتركة" لـ "الحوار المباشر والصريح" أكثر من سؤال، بشأن توقيتها وخلفياتها ومآلاتها الممكنة، فقد دعا ملك المغرب، محمد السادس، الجزائر، بمناسبة الخطاب الذي ألقاه في الذكرى الثالثة والأربعين لـ "المسيرة الخضراء" في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، إلى إعادة فتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ عام 1994، مقترحًا إنشاء آلية سياسية مشتركة للحوار، وعارضًا قضايا الاستثمار وتعزيز التعاون الثنائي تجاه التحديات الإقليمية والدولية، ومن أهمها إشكالات الإرهاب والهجرة، ومؤكّدًا انفتاح بلاده على المقترحات والمبادرات التي تتقدّم بها الجزائر، بهدف تجاوز الجمود في العلاقات الثنائية. ولم يخلُ الخطاب من إشاراتٍ تاريخيةٍ إلى الثورة الجزائرية، وإلى "الطموح الذي كان يُحفّز جيل التحرير والاستقلال إلى تحقيق الوحدة المغاربية"، في الذكرى الستين لمؤتمر طنجة المغاربي الذي عُقد في عام 1958، كما لم يخلُ من إحالاتٍ على مرجعياتٍ دينيةٍ، تحثّ على حسن الجوار.
أتت هذه الخطوة مفاجئةً على أكثر من صعيد، لا سيّما أنها الأولى التي يُبادر إليها المغرب في عهد الملك محمد السادس. كما أنّ توقيتها، الذي تزامن مع ذكرى "المسيرة الخضراء"، يأتي غداة قرار مجلس الأمن أخيرا رقم 2440 في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 بتجديد ولاية بعثة منظمة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) ستة أشهر، وعشيّة انطلاق المفاوضات حول الصحراء في جنيف في مستهلّ كانون الأول/ ديسمبر 2018؛ وهو ما يطرح أكثر من سؤال بشأن خلفيات هذه المبادرة ومآلاتها.


الخلاف المغربي - الجزائري
اتسمت الحقبة ما بعد الكولونيالية بصراع حاد بين المغرب والجزائر، ساهمت فيه عوامل عدة، من أهمها عدم الاتفاق على ترسيم الحدود بين البلدين؛ وهي المشكلة التي تطوّرت إلى مواجهة مسلحة (ما سميت حرب الرمال أواخر 1963) قبل أن تصبح "قضية الصحراء" موضوع الخلاف الرئيس بين البلدين. ففي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، نظّم المغرب "المسيرة الخضراء" التي شارك فيها نحو 350 ألف مغربي، في اتجاه منطقة الصحراء الرازحة حينها تحت الاستعمار الإسباني. وبعد رحيل الإسبان، سيطر المغرب على معظم مناطق الصحراء؛ ما أدى إلى اندلاعٍ نزاع مسلح مع "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (البوليساريو) استمر حتى عام 1991، نشرت في إثره الأمم المتحدة بعثةً لها في المنطقة (المينورسو) للإشراف على احترام وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو. وقد ظلّت الجزائر، طوال هذه الفترة، تساند الجبهة في مطالبتها باستفتاءٍ لتقرير المصير، في حين ظلّ المغرب يؤكد أنّ هذا الإقليم جزء لا يتجزّأ من ترابه، وأنه لا بديل من التفاوض على مقترح الحكم الذاتي.
وطوال العقود الثلاثة الماضية، ظلت قضية الصحراء تراوح مكانها، ملقيةً بظلالها سلبيًا على العلاقة بين البلدين الجارين، وظلّ التوتّر السمة الغالبة على العلاقات المغربية - الجزائرية. وعلى الرغم من الانفراج الموقّت في نهاية الثمانينيات، بعقد قمة زرالدة بين زعماء الدول المغاربية الخمس في 10 حزيران/ يونيو 1988، ثم مؤتمر مراكش في 17 شباط/ فبراير 1989 الذي شهد إنشاء اتحاد المغرب العربي، سرعان ما عاد التوتّر ليلقي بظلاله على العلاقات المغربية - الجزائرية؛ ما أفضى إلى إغلاق الحدود البرية المغربية - الجزائرية في عام 1994، في إثر هجومٍ مسلحٍ استهدف فندقًا في مدينة مراكش، اتهمت الرباط حينها الجزائر بالوقوف وراءه. وظلت هذه الحدود موصدة، وبقيت العلاقات بينهما متأزّمة.

دلالات التوقيت
تأتي المبادرة المغربية في مرحلة دقيقة، تمرّ بها قضية الصحراء، بعد قرار مجلس الأمن رقم 2440، الذي قدّمته الولايات المتحدة الأميركية، واعتُمد بغالبية كبيرة من أعضاء المجلس؛ إذ وافق عليه 12 عضوًا، بينما امتنعت روسيا وإثيوبيا وبوليفيا عن التصويت، ومدّد مهمة المينورسو ستة أشهر، أي إلى غاية 30 نيسان/ أبريل 2019، وأكّد القرار أهمية أن تلتزم الأطراف المعنية المضيّ في العملية السياسية، وضرورة التحلّي بالواقعية وروح التسوية لإحراز تقدّم في المفاوضات. وجاء القرار منسجمًا مع التوصية الأميركية التي خالفت مقترح بلدان حليفة للمغرب، ولا سيما فرنسا التي دعت إلى التمديد للبعثة بعام كامل؛ إذ رأت الولايات المتحدة التي صاغت القرار أنّ تقليص مدة المهمة إلى ستة أشهر من شأنه أن يضغط على أطراف النزاع، للتوصل إلى حلّ بالتفاوض؛ وقد أثارت في الآن ذاته مسألة تمويل بعثة المينورسو التي غدت مطروحة للنقاش أكثر من أيّ وقت مضى.
كما تأتي المبادرة عشيّة انعقاد جولة المفاوضات في جنيف حول الصحراء في 5 و6 كانون الأول/ ديسمبر 2018، بعد أن استجابت الأطراف الأربعة (المغرب، وجبهة البوليساريو، والجزائر، وموريتانيا)، تحت ضغوط دولية، لدعوة مبعوث الأمم المتحدة للصحراء ورئيس جمهورية ألمانيا الأسبق، هورست كولر، والتي أوضح فيها أنّ الهدف المرجو من هذه المحادثات "مناقشة الخطوات المقبلة التي من شأنها إعادة بعث المسار السياسي"، فمنذ حزيران/ يونيو 2007، أجرى المغرب وجبهة البوليساريو عدة جولاتٍ من المفاوضات، يعود آخرها إلى آذار/ مارس 2012 في بلدة مانهاست الأميركية؛ وهي مفاوضاتٌ اتّسمت عمومًا بالجمود، ولم تتوجّ بأيّ نتائج ملموسة. وعلى الرغم من أنّ الأمر لا يتعلق هذه المرّة بـ "مفاوضات مباشرة" بالمعنى الدقيق، بل بـ "طاولة نقاش" وفق صيغة "2+2" (المغرب وجبهة البوليساريو + الجزائر وموريتانيا)، فإنّ من شأن هذه الخطوة أن تحرّك الركود في الأزمة الصحراوية، وأن تسهم في حلحلة الوضع الإقليمي.
وأخيرًا، تأتي المبادرة المغربية في لحظة سياسية دقيقة بالنسبة إلى الجزائر التي تستعد للانتخابات الرئاسية في ربيع 2019، في ظلّ عدم الإعلان الرسمي حتى الآن عن ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وفي ظلّ موجة التغييرات العديدة التي شهدتها قيادة الجيش الجزائري ووزارة الدفاع، وعدم وضوح المشهد السياسي الجزائري العام في ضوء صراع الأجنحة الجاري.
وعلى الرغم من الترحيب الذي لاقته المبادرة عربيًا ودوليًا، فإنه لم يصدر عن الجزائر حتى اليوم أيّ موقفٍ رسمي، باستثناء ما رشح من تصريحاتٍ لمسؤولين سابقين، تحفّظوا عن توقيت الدعوة وسياقها. أما في المغرب، فلم يسبق هذه الدعوة نقاش عمومي يعزّز شعبية هذا الطرح، ويبين عائده السياسي بالنسبة للمملكة، فالموضوع لم يكن مطروحًا خلال السنوات الماضية، بل إنها تتبنّى سياسةً خارجية تتوجّه بالأساس نحو تعزيز العلاقة بالعمق الأفريقي، بدلًا من المغاربي، ولا سيّما من خلال عودتها إلى عضوية الاتحاد الأفريقي، وسعيها إلى الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "سيدياو" (CEDEAO). وهنا أيضًا لم تغب أوجه الصراع المغربي - الجزائري، ولا سيما في محاولات البلدين استقطاب الطرق الصوفية في العمق الأفريقي، وفي التنافس على الظفر بمشروع أنبوب الغاز النيجيري إلى أوروبا.

السيناريوهات المرتقبة
أثار قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تعيين جون بولتون مستشارًا للأمن القومي، في نيسان/ أبريل 2018، قلق الحكومة المغربية؛ ذلك أن بولتون كان قد عمل سابقًا مستشارًا لمبعوث الأمم المتحدة للصحراء جيمس بيكر، المعروف بمواقفه القريبة من جبهة البوليساريو والمتعاطفة مع فكرة استفتاء تقرير المصير في الصحراء. كما أنّ تصويت مجلس الأمن في الشهر نفسه على القرار رقم 2414 عزّز قلق المغرب. وإذا كان الدعم الفرنسي لموقف المغرب في قضية الصحراء ظلّ ثابتًا، فإنّ الموقفين، البريطاني والأميركي، يثيران قلقًا متزايدًا في الرباط؛ ولذلك لا يمكن النظر إلى هذه الدعوة المغربية إلى الحوار من دون ربطها
بمداولات القرار الذي اتخذه أخيرا مجلس الأمن رقم 2440 وتبعاته، فتمديد مهمة المينورسو ستة أشهر فحسب، للمرة الثانية على التوالي، بعد أن كان التمديد يتمّ سنويًا قبل ذلك، يثير قلق الدبلوماسية المغربية. يُضاف إلى ذلك أنه، وفي ضوء ما قد تسفر عنه المفاوضات حول الصحراء المزمع عقدها في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة في 5 و6 كانون الأول/ ديسمبر 2018، بات من المحتّم على المغرب أن يأخذ بزمام المبادرة، ويحاول الدفع بدينامية جديدة حول مقترحه للحكم الذاتي في الصحراء.
وبما أن احتمالات استجابة الجزائر لدعوة المغرب إلى الحوار المباشر ضعيفة، فإنّ هذه المبادرة تبدو موجّهة إلى المجتمع الدولي أكثر منها إلى الجزائر، في صيغة رسائل تبيّن استعداد المغرب للمساعدة في إيجاد حلّ لهذه القضية. ويسعى المغرب بكل الطرق لإقحام الجزائر في ملف الصحراء مباشرةً؛ باعتبار أن الدعم الجزائري للبوليساريو عامل رئيس فيها، بينما تعدّ الجزائر الملف قضية مدرجة في الأمم المتحدة، وأنها ليست طرفًا مباشرًا فيها، فيما تتوجس جبهة البوليساريو من أيّ تقاربٍ محتمل بين الجارتين؛ على اعتبار أنه سيكون حتمًا على حسابها.
يبدو إذًا أنّ من شأن تشبّث الأطراف المعنية بمواقفها المسبقة أن يُجهض أيّ مفاوضاتٍ مرتقبةٍ في هذا الملف؛ ويظل البون شاسعًا بين موقف الداعي إلى استفتاء لتقرير المصير، والموقف الذي يؤكّد الحكم الذاتي، بوصفه تسويةً وحلًا وحيدًا للنزاع.
تذكّر المبادرة المغربية للحوار، وإن بدت ظرفيةً في سياقها وتكتيكية في مراميها، بأنّ الحوار بين المغرب والجزائر يظلّ ضرورةً ملحّة، ومفتاحًا رئيسًا لتلبية مطالب شعبي البلدين العربيين الجارين وآمالهما، سواء تجاه تكاملهما، أو بالنسبة إلى التكامل المغاربي.