ماكرون.. خالف تُعرف

ماكرون.. خالف تُعرف

18 نوفمبر 2018
+ الخط -
وصل الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم في فرنسا سنة 2017 نتيجة تصويتٍ "مفيد"، تضافرت فيه أصوات الناخبين الفرنسيين من قوى اليسار ويمين الوسط، سعياً إلى وضع حاجز أمام التقدّم المخيف في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية لمارين لوبان، مرشّحة حزب اليمين المتطرف الذي كان يُسمّى "الجبهة الوطنية"، والذي تحوّل اسمه اليوم إلى حزب التجمع الوطني. وكان الاعتقاد الذي ساد لدى الأحزاب "الطبيعية" يدعو إلى ضرورة حماية الجمهورية الفرنسية من وصول هذا الحزب اليميني المتطرّف، مهما تعدّدت عناوينه، إلى قصر الإليزيه علماً بأنه الوريث غير الشرعي، لكن الأقوى، للفاشية السياسية وللنازية الفكرية. ونجح الفرنسيون في ذلك، على الرغم من ارتفاع نسبة المقترعين للأحزاب الشعبوية والمتطرّفة ذات اليمين وذات اليسار في هذه الانتخابات تحديداً.
بعد عام ونيّف من هذا الانتصار الديمقراطي، وبعد أن شهدت دول أوروبية صعوداً متفاوت النسب للأحزاب الفاشية (إيطاليا) وتلك المتعاطفة مع الإرث النازي (النمسا وألمانيا)، وبعد أن اقتحم دونالد ترامب، بشعبويةٍ لافتةٍ، وعنصريةٍ راسخة، وعدائيةٍ متراكمةٍ لحرية التعبير وللمهاجرين وللبيئة (...)، البيت الأبيض، بأصوات الناخبين التي يبقى تحليلها عصيّاً في عجالة الرصد الخارجي، ومعقدة الحساب في المشهد الأميركي، وبعد أن سيطر الفاشيون الجدد على الحكم في البرازيل، يتساءل الإنسان السوي عمّا ستؤول إليه حال الدنيا في السنوات القليلة المقبلة، قبل أن تصحو "الضمائر"، وتعود العقلانية إلى احتلال مكانها المناسب في وعي العامة، على الرغم من تضافر العوامل الدينية والاقتصادية والإعلامية والسياسية للإخلال بالفكر السليم والتحليل العقلاني، والمقدرة على التمييز بين الوعود المفخخة والبرامج السياسية المبنية على رؤية واقعية.
الرئيس ماكرون، إذاً، وبعد أن صعد بفضل هذه الصحوة الوطنية ضد اليمين المتطرّف 
ورموزه، وعلى الرغم من عميق ثقافته العامة والفلسفية، مهما تراكمت الملاحظات على أدائه السياسي داخلياً ودولياً، وعلى الرغم من تكوينه العلمي الذي سمح له بالاطلاع مباشرة على أهم وثائق تأسيس الجمهورية ونموها، فقد زلّ لسانه عن سابق تصوّر وتصميم، وأدرج المارشال فيليب بيتان في قائمة من سيكرّمون بمناسبة الذكرى السبعين لنهاية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، بما أن الأخير كان قد لعب دوراً مهما في انتصار الفرنسيين على الألمان في الحرب الأولى. وحتى الآن، لا يبدو أن هناك زلّة من أي نوع، ولكن، إن عرفنا أن هذا المارشال "البطل" هو من وقّع اتفاقية الاستسلام لألمانيا النازية سنة 1940، وبأنه سلم مقدرات الحكم إلى هتلر بعدها، على الرغم من الإبقاء عليه دمية سياسية وواجهة محلية رئيساً للدولة، وعلى الرغم من انتمائه المكشوف إلى اليمين المتطرف سياسياً ودينياً ومعاداته السامية، ودوره الشخصي في تسليم عشرات ألوف الفرنسيين الغجر والمثليين والشيوعيين واليهود للموت في أفران هتلر، كما دوره الشخصي أيضا في موت آلاف المغاربة في معركة الريف، دعماً للإسبان لسحق ثورة عبد الكريم الخطابي، حينما، ويا للمصادفة، قاد المجزرة من الطرف الإسباني الضابط، الشاب حينها، فرانكو السفاح سنة 1925، إلا أن إيمانويل ماكرون "تجرّأ" على ذكره "جنديا كبيرا"، متذرّعاً بأنه لا يُستحسن الهروب من "مواجهة التاريخ".
حاول ماكرون، منذ بداية ولايته، التميّز عن سياسات من سبقوه بطريقة الصدمة، فعلى الرغم 
من الدور التخريبي والدعاية التدميرية التي لعبتها ضده أجهزة الإعلام/ المخابرات الروسية إبّان الحملة الانتخابية، والدعم الصريح لمرشحة اليمين المتطرّف، إلا أنه قام، فور وصوله إلى قصر الإليزيه، بتنظيم استقبال ملكي لرمز التسلطية، والداعم كل المجموعات الشعبوية والمتطرّفة في الغرب، فلاديمير بوتين، في قصر فرساي. كما أنه سرعان ما تودّد إلى صديق كل اليمين المتطرّف الصاعد في العالم، دونالد ترامب، في استعراضاتٍ إعلامية، أقل ما يقال فيها إنها فشلت في تليين الموقف المتعجرف لترامب، بخصوص كل ملفات التفاوض مع فرنسا والاتحاد الأوروبي من حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى اتفاقية باريس المناخية.
السؤال الذي يُطرح إثر مثل هذه التصريحات الصادمة، وعلى الرغم من تراجع ماكرون نفسه عن محتواها غالباً، وعلى الرغم من انصراف معاونيه لتبرير أسباب الطرح كما التراجع، هو عمّا إذا كان هذا الموقف نتيجة رغبة جارفة لدى الرئيس للقطع مع الماضي والاختلاف عمن سبقوه في تاريخ فرنسا الحديث، بحيث يبدو، وهو شديد الثقة بالذات، كأنه يُعيد قراءة التاريخ، مُحدّداً الصالح من الطالح؟ أم أن تصرّفه هذا ينمُّ عن سعي سياسوي انتخابي باتجاه أصوات المتطرّفين اليمينيين الذين يعتريهم الحنين الدائم للمارشال، وما يُمثّله من "قيم"؟