سورية.. هذه الأكثريات والأقليات

سورية.. هذه الأكثريات والأقليات

18 نوفمبر 2018
+ الخط -
انقسم السوريون مجدداً بين مؤيد ومعارض لتعديل علم ثورتهم، إذ رأينا جدلا حادا على الصعيدين، الرسمي والشعبي، بشأن قرار "الهيئة التأسيسية لحكومة الإنقاذ"، المقرّبة من حركة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، باعتماد علم جديد في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، وتحديدا في إدلب وريفها. العلم الجديد، استبدلت فيه النجمات الحمراء الثلاث بعبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وبالخط الرقعي، وباللون الأحمر أيضاً.
بُعيد انطلاق الثورة السورية، لم يجتهد دعاة الحرية والكرامة وإسقاط نظام الأسد، كثيراً في اختيار العلم الذي يمثل ثورتهم، فتم اعتماد علم الاستقلال عن المستعمر الفرنسي عام 1946، والذي كان معتمداً حتى قبل انقلاب حزب البعث عام 1963. كان لعلم النجمات الثلاث الحمراء في المنتصف دلالاته الوطنية والسياسية بالنسبة للمتظاهرين ضد الأسد ونظامه. من جهة، هو يرمز إلى وحدة السوريين، على اختلاف مكوناتهم وتوجهاتهم في مقارعة الاحتلال الفرنسي، وحجم التضحيات التي قدمت في سبيل نيل الحرية والتأسيس لدولة ذات كيان مستقل، يتمتّع فيها الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية، إذ أفضت تجربة ما بعد رحيل المستعمر إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، احترم فيها المعتقد السياسي بالتساوي مع الديني والطائفي والعرقي، لتغدو بذلك سورية واحة للديمقراطية واحترام للحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط منتصف القرن الماضي.
من جهة أخرى، جاءت رداً على رفض علم النظام ذي النجمتين، الذي مُورس تحت سقفه أبشع أنواع التعذيب والتنكيل والجرائم بحق السوريين عامة، والسياسيين خصوصا، وكان تعبيرا صارخا عن طي الصفحة السوداء من تاريخ سورية الحديث خلال أربعة عقود من حكم البعث وآل الأسد. بذلك أرادت المعارضة السورية السياسية الانتصار لحريتهم وكرامتهم بإسقاط أول رموز النظام من خلال إسقاط علمه.
بعد سطوة المال والسلاح وحجم التدخلات الخارجية والولاءات السياسية والمذهبية والعرقية، تغيّر مسار الثورة من سلمية إلى "عنفية متبادلة"، وتوالت معها التشوّهات التي نخرت جسد ثورة كتب لها ألا تنتصر بمفاهيمها السلمية ومدلولاتها الوطنية.
لم يكن تعديل العلم بداية التشوه، ولن يكون آخره. المفارقة أن الجهة التي أصدرت تعميم تبديل العلم هي نفسها محل رفض غالبية أطر المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، وهي نفسها من كادت أن تتسبب بمقتل الآلاف من المدنيين والأهالي على يد قوات النظام وحلفائه في إدلب وريفها! وهي نفسها من دخلت في معارك جانبية مع معظم الفصائل العسكرية المعارضة، وتسببت في تهجير الآلاف وتشريدهم من قراهم ومدنهم، وهي من أجرت عملية "التجميل" لاسمها للهروب من قائمة الإرهاب الدولي.
اعتماد "الهيئة التأسيسية" هذا العلم لا يختلف في المنهج عن اعتماد النظام علمه الخاص بعد انقلابه عام 1963، فكلاهما اغتصب السلطة والإدارة بشكل غير شرعي، وبفوهة البندقية، وكلاهما اختزل الحضارة السورية وتاريخ شعوبها وتنوعها بأيديولوجيتهم الأحادية وممارساتهم الإقصائية، فلا حزب البعث كان يمثل العرب وثقافتهم، ولا "الهيئة التأسيسية" تمثل الإسلام وتعاليمه، الأول استغل مفهوم القومية "العربية" ليضرب به معارضيه، ويؤسس لحكم دكتاتوري فردي إقصائي، حوّل سورية إلى مزرعة لعائلة في طائفة، حيث لا مكان للرأي والمعتقد إلا لمعتنقي "البعث"، ولا احترام للإنسان وحريته إلا للحاشية والمستفيدين من سطوة العائلة. والآخر، بعيد كل البعد عن الإسلام وشعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله". هو الآخر أيضا، إلى جانب بعض التنظيمات المسلحة الراديكالية الارهابية زرعت في عقول الكثيرين، داخلياً وخارجياً، فكرة "الإسلام السياسي المتطرف" الذي لا يعترف ولا يقبل بحق الآخرين في العيش والاعتقاد والمصير المشترك، وهي "حركة تحرير الشام" من تريد أن تطمس الهوية الوطنية المدنية للشعب السوري، وتشوه مفهوم الانتماء للأغلبية في نظر الأقلية، كما شوّه "البعث" صورة الأقلية وانتمائهم أمام الأغلبية.
ما لم يتجاوز السوريون بمكوناتهم، السياسية والدينية والإثنية، عقدة فرض "وسم الغالبية" على المدلولات السيادية لوطنهم، كالعلم، أو اسم الدولة ونشيدها، لن يستطيعوا مجدداً النهوض بدولة مدنية ديمقراطية حقيقية تعبر عن طموحات وتطلعات جميع مكوناتها في الحرية والعدالة والمساواة، ولن تأمن الأقليات على مستقبلها في دولةٍ تعجز عن احتضان أبنائها، وتحترم تاريخ شعوبها وتنوعها الحضاري والثقافي، وما يحتاجه السوريون بعد سنوات الحرب الصعبة والمدمرة ليس مدلولات الغالبية، ولا رغبات الأقلية، ما يحتاجونه هو التوافق على بناء سورية حديثة من خلال الاحترام والاعتراف بالهوية السورية المشكلة من تمازج حضارات عريقة لشعوبها.
159F2215-29E9-4C52-A537-955AA956B401
159F2215-29E9-4C52-A537-955AA956B401
عبدالوهاب أحمد (سورية)
عبدالوهاب أحمد (سورية)