دودة أمام القنصلية

دودة أمام القنصلية

18 نوفمبر 2018
+ الخط -
"نظرة.. فابتسامة.. فانحناءة.. فمجزرة".. مع الاعتذار لأحمد شوقي، لكني مضطرٌّ لاستعارة كلماته في وصف حارس القنصلية السعودية في إسطنبول، الرجل النحيل الأنيق نصف الأصلع، ذي الجاكيت الأزرق الفاتح، والذي لا يغرب عن مخيّلتي، وهو يبتذل انحناءة خفيفةً، وابتسامةً رقيقة، للترحيب بجمال خاشقجي لدى دخوله قنصلية الموت. ولا أدري لماذا ذكّرني هذا الرجل الأنيق بديدان المصائد التي يدسّها الصيادون في فوّهة الفخّ لاجتذاب الطيور، وما إن ينخدع الطائر بالدودة المتلويّة فينقرها، حتى تُطبق المصيدة على جسده، قبل أن تُطبق عليه في ما بعد أحشاء الصيّاد.
كان من الواضح، إذن، أن هذا الرجل "الدودة" جزء من عملية الاغتيال المعدّة لجمال خاشقجي، بل لعلّه العنصر الأهمّ في العملية؛ لأنه يمثّل الطّعم الجاذب للضحية بابتسامته وانحناءته، وكأنه يقدّم رسالة "سلامٍ" لجمال، تبعث في نفسه القلقة مشاعر طمأنينة، تشجّعه على مواصلة الطريق نحو "المصيدة"؛ ولو كان الأمر على خلاف ذلك، أي لو كان جمال رأى في سحنة هذا الرجل رسالةً مغايرة، كتقطيبة جبين أو تصرّف فظّ على باب القنصلية، فلربما عدل عن الدخول؛ لأنه سيقرأ المجزرة من عنوانها، المتمثل بملامح "الرجل الدودة".
من واقع مصيدتي الشخصية، في وسعي القول إن من يلعبون دور ديدان المصائد أخطر حلقات القمع في دوائر القمع العربية؛ لأنهم يُتقنون أساليب الخداع والتلوّن والاجتذاب، ولأنهم يكونون في صدارة المشهد، دائمًا، ويمثّلون "وجه البُكسة"، والمقصود بها عبوة الخضار أو الفواكه، فينجذب المشتري إليها، على الرغم من أنها تخفي وراءها سائر أشكال العفن والخمج، وهي ديدانٌ تعرف أن دورها محصور بإيقاع الضحية ليس إلا، أما تمزيقُها، فذلك منوطٌ بديدانٍ أخرى، لا ترتدي البذلات، ولا تضع العطور الثمينة، ولا تبتذل الابتسامات والانحناءات الرخيصة. ومن هؤلاء من يلعب دور المحقّق البديل أو (الجزرة)، في دوائر المخابرات الذي يأتي إلى الضحية بعد إشباعها ضربًا من المحقق الأول (العصا)، فيلبس قناع الرحمة، ويُبدي الاهتمام والشفقة، محاولًا إقناع الضحية بالاعتراف والتوقيع على محضر التحقيق، للخلاص من التعذيب.
والحال أنني لا أدري ما الذي دار في ذهن جمال خاشقجي، بعد أن وقع في مصيدة القنصلية، وهل تذكّر تلك الابتسامة الماكرة من دودة المصيدة، حين رأى المنشار يقترب من جسده. وفي المقابل، كيف كان يشعر الرجل الدودة، بعد أن دخل الطائر إلى المصيدة، هل فارقته الابتسامة، أم تعمّقت مع شعوره بأنه أتقن دوره حتى القطعة الأخيرة من جسد جمال؟
ما عاد هذا مهمًّا، ربما، بعد مضيّ أزيد من شهر على المصيدة المُطبقة على جسد جمال، غير أن ما يثير المقت، حقًّا، أن هذه الديدان تؤدي مهامّ قذرة في أجساد ضحايا ليست ضحاياها في الحقيقة، بل ضحايا أسيادها، القابعين في القصور المخملية الذين يأنفون من رؤية مشاهد الدمّ على الأغلب، على الرغم من أنهار الدماء التي يسفحونها بوساطة تلك الديدان، وهم أسيادٌ يتدثّرون بالبذلات الأنيقة، أيضًا، ويغتسلون بالعطور والبخور، ويبتذلون الابتسامات والانحناءات لصيادين يأتون من وراء البحار، ويُدركون أنهم يلعبون أدوار الديدان، طائعين ساجدين، لاجتذاب هؤلاء الصيادين، ليس إلى الفخّ، بل إلى ثروات الأمة ومستقبلها، لقاء بقائها على فوّهات السلطة. أما الديدان الصغيرة المستأجرة لإطاحة جمال، وغيره، فهي، على الأغلب، تظن أنها تتمتّع بحصانة أسيادها من الديدان الكبيرة، وتحاول محاكاتها في أساليب حياتها وقمعها ووأد ضمائرها، غير أنها سرعان ما تكتشف أن غاية ما يمكن أن تحصل عليه هو "ساندوش شاورما" وزجاجة كحول، على غرار "الغنائم" التي حصل عليها قتلة خاشقجي بعد تنفيذ المجزرة، هذا إذا لم تفتضح جرائمها. أما إذا افتضحت، فإن الديدان الرخيصة سرعان ما تتحول هي ذاتها إلى ضحايا لافتداء الديدان الكبيرة من أسيادها، وهو ما سيحدث لقتلة جمال، ولجزء من الحلقة العليا للأوامر، من أمثال سعود القحطاني وأحمد عسيري.
على هذا النحو، لم يكن الرجل الدودة على باب القنصلية الذي زيّن للطائر جمال خاشقجي دخول المصيدة يعلم أن المصيدة ستطبق على جسده أيضًا؛ لأن من يلعب دور الدودة لا بد أن يُؤكل في نهاية المطاف.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.