هذه الصحافية و"حرب خاصة"

هذه الصحافية و"حرب خاصة"

16 نوفمبر 2018
+ الخط -
تذكّرنْاها، نحن بعض المعلقين، في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم ضد الصحافيين. جئنا على اسمها، من بين الصحافيين الميدانيين الذين تم استهدافُهم بالقتل عمدا. تذكّرنا أنها ممن قضوا بنيران جيش الأسد في سورية، في واحدة ٍمن أشدّ فظائع عدوان هذا الجيش على المدنيين العزّل في حمص، وكان حصارٌ ثقيلٌ يطوّقهم به، ولم يكتف بذلك، بل أمطر مركزا إعلاميا، ومن فيه، بقنابلِه وصواريخِه، ففقدت الصحافية الأميركية المتحدّث عنها هنا، ماري كالفن، حياتَها، وكذلك زميلُها المصور الفرنسي، ريمي أوشليك، وذلك في فبراير/ شباط 2012. وقبل أزيد من عام، تلقت محكمةٌ في واشنطن دعوى قضائيةً على مسؤولين سوريين، بينهم ماهر الأسد، يتهم فيها المركزُ الأميركي للعدالة والمساواة، باسم شقيقة كالفن وآخرين من عائلتها، هؤلاء بإطلاق هجوم صاروخي مركّزٍ محدّد الهدف، عمدا، على المركز الإعلامي الذي أقامه ناشطون في حي بابا عمرو، وكانت تعمل منه الضحية، ومعها صحافيون أجانب وسوريون آخرون.
يذكّرنا بماري كالفن أيضا الفيلم السينمائي "حرب خاصة" الذي تتم عروضه حاليا، يعتني بسيرتِها وشخصيتها. يعرّفنا بها أكثر، بما كانت عليه من شجاعةٍ وجسارةٍ غير عاديتيْن. وفي محلّه قول المخرج، ماثيو هاينمان، إن فيلمَه تحيّةٌ إلى هذه المرأة، وإلى مهنة الصحافة التي كان شغف كالفن بها استثنائيا، أو على الأصح، بنوعٍ معيّن منها، ذلك الذي يكون الصحافي فيه هناك، في مناطق الاشتباكات والحروب، بين القذائف والشظايا، في الحارات المدمّرة مثلا. في "ساحات الوغى" التي تُؤثرُها ماري كالفن على المؤتمرات والفنادق والمهرجانات والتصريحات. أيّ مزاجٍ صعبٍ ذلك الذي كانت عليه هذه المرأة التي أزهق عدوان جيش الأسد حياتها في السادسة والخمسين من عمرها؟ لقد فقدت عينَها اليمنى، لمّا أُصيبت في أثناء متابعتها واحدةً من جولات الحرب الأهلية في سريلانكا في العام 2001، ثم لم تجد هذا سببا في أن لا تكون هناك، في العراق في حرب إسقاط النظام السابق فيه، في تيمور الشرقية، في أفغانستان. وقبل هذه الساحات، كانت في البوسنة والهرسك، في الشيشان. وبعدها، لمّا نشب الربيع العربي، حضرت إلى ميدان التحرير في القاهرة، ثم إلى مصراتة وغيرها في ليبيا، في غضون المواجهات المسلّحة فيها بين الثوار وكتائب القذافي الذي التقته في مقابلةٍ صحافيةٍ مثيرة، وهو الذي يعرفها منذ مقابلاتٍ سابقة.. ثم في سورية، في أشدّ نقاط السخونة فيها بعد قرار الحرب الذي اتخذه نظام الأسد على الشعب. هناك، انتهت هذه المرأة في الميتة الشنيعة.
ليس الفيلم تحفةً سينمائية. هو جيدٌ فحسب، وإن اشتمل على مقاطع مثيرةٍ من "الآكشن" مشغولةٍ بتميّز، بتصويرٍ حاذقٍ، سيما في ربع الساعة الأخير منه، في تشخيص حالة القلق المروّعة في الملجأ (المركز الإعلامي) في بابا عمرو في حمص. وقرأتُ أن المخرج، في تصويره هذا المشهد (في الأردن كما غيره)، جاء بنازحين سوريين إلى موقع التصوير هذا. واختار لمشهد حسرة سوريّ وبكائه على موت طفلِه الجريح، بسبب نقص التجهيزات الطبية لإنقاذه، مواطنا من حمص نفسها فقد ابنه حقيقةً، لتأدية "الدور" (!). وإلى هذا المقطع، وهو من المشاهِد الأكثر إتقانا في الفيلم، ثمّة إجادةٌ في مشاهد أخرى، منها الذي يُحيل إلى سريلانكا، فيما الأضعف ذلك الذي ذهب إلى العراق.
أجادت الممثلة البريطانية، روزاماند بايك، أداء شخصية الصحافية، المثيرة للإعجاب، والفضول بشأنها. تمكّنت من تظهير مواطن التوتر، أو الاضطراب (وهذا حقيقيّ فيما يبدو) فيها. تُفرط في شرب الكحول، وفي التدخين، هي التي فشلت في زواجيْن، وربما تسبّب إجهاضُها مرتين في مزاجها غير المستقر أحيانا، لكنه مزاجٌ حادٌ، وجادٌّ في مناكفة رئيس تحرير "الصنداي تايمز"، مثلا، عندما تصرّ على ما تريد أن تنقله من العراق، وعلى البقاء في حمص، وهو الذي يُشاكسها برغبته في أن تعمل في صفحة تزيين حدائق المنازل. كانت مهمومةً بنقل مآسي الناس في أثناء الحروب، مدفوعةً بحسّ إنسانيٍ عالٍ فيها. لا يغيب عنّا أنها التي كتبت، وقالت من داخل بابا عمرو في حمص، كما كنا نعرف، وكما أوضح الفيلم، إن نظام الأسد يكذب في زعمِه إنه يُحارب إرهابيين، إنه يقتل المدنيين المحاصرين.. ثم ساعاتٍ بعد صيحتها تلك، قتلها أيضا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.