حراك مسقط المفاجئ.. قوس الأزمات بلغ منتهاه

حراك مسقط المفاجئ.. قوس الأزمات بلغ منتهاه

16 نوفمبر 2018
+ الخط -
تحمل عودة مسقط، المفاجئة، إلى واجهة الحراك السياسي والدبلوماسي في المنطقة أكثر من رسالة إلى أكثر من طرف. ففي ظرف أسبوع (الأسبوع الأخير من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي)، استقبلت العاصمة العُمانية طرفي الصراع في أكثر القضايا تعقيدا في العالم، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، اللذين قاما بزيارتين، لم تفصل بينهما سوى ثلاثة أيام، التقيا فيهما السلطان قابوس. والزيارة التي أثارت الأسئلة هي زيارة نتنياهو بلدا عُرفت سياسته الخارجية بالتأنّي، والحركة خارج دائرة الضوء والصخب، ولا يرتبط بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل. ولعل أهم الأسئلة هو سؤال الزمان والمكان: لماذا الآن، ولماذا عُمان؟
في كل أزمة، أو كل هزيمة، يمرّ بها ويتعرّض لها العالم العربي، منذ هزيمة 1948 وقيام دولة إسرائيل، وليس انتهاءً بتشظّيات مرحلة ما بعد الربيع العربي، مرورا بالأزمات والنكسات المتتالية، من نكسة 1967 إلى حرب الخليج الأولى (1980 - 1988) إلى الاجتياح الإسرائيلي لبنانَ في 1982، وما نتج منه من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من خط المواجهة مع إسرائيل إلى الشتات، إلى احتلال العراق الكويت ثم حرب تحرير الكويت
1990-1991 التي كانت مقدّمة لإسقاط العراق واحتلاله وتفكيكه وتفجيره من الداخل، إلى الحرب التي يشنها ما يعرف بالتحالف العربي، بقيادة السعودية ومع الإمارات، في اليمن، إلى أزمة الخليج الراهنة، أو ما يعرف بـ"حصار قطر"، .. مع كل أزمة أو هزيمة ارتطم العالم العربي بالقاع، وليس من خيار بعده سوى الانتفاض، لكن القاع، على ما يبدو، لا يزال بعيدا.
ومع كل حلقة من هذه الحلقات التي يزداد فيها ضعف الدول العربية، وتتّسع معها شقة الخلاف بينها، تزداد أرباح إسرائيل السياسية، وتتعاظم قوتها العسكرية، وثقتها في أنه لم يعد في مقدور خصومها العرب قذفها بحجر، ناهيك بأن يكون في مقدورهم قذفها في البحر. ومع هذا الضعف والتفكك العربي، يبدو أن سؤال توقيت زيارة نتنياهو مسقط ليس مهما، إلا من ناحية أن الولايات المتحدة الأميركية، في ظل إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، والتي ترتبط عُمان ودول الخليج الأخرى بعلاقة تحالفٍ وثيقة معها، اتخذت قرارا واضحا (أكثر وضوحا مما كانت تتخذه أو تهدّد باتخاذه الإدارات الأميركية السابقة، بالتخلي عن دور الوسيط شبه المتوازن بين طرفي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إلى دور المنحاز كليا للطرف الإسرائيلي. وينعكس هذا القرار على مواقف دول الخليج العربية من القضية الفلسطينية) بصرف النظر عن المعلن في الخطابيْن، السياسي والإعلامي، داخل هذه الدول، وبالتالي مواقفها من القوى الإقليمية الداعمة للقضية الفلسطينية، كإيران، حتى لو كان الدعم لأهداف سياسية – تكتيكية، متغيّرة.
في هذا السياق، لا يبدو أن زيارة نتنياهو مسقط تحمل رسالة جديدة، أو مختلفة، على صعيد حل "مشكلة القرن"، أو حل يُرضي الطرف الفلسطيني، ويحقّق مطلب إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود واضحة (حدود 67) وعاصمتها القدس الشرقية. وعُمان، كما قال وزير الدولة للشؤون الخارجية، يوسف بن علوي، ليست وسيطا في القضية الفلسطينية، إنما مشجّع للحوار وداعم له. ومفتاح الحل، كما ألمح بن علوي في واشنطن، وواشنطن وضعت المفتاح في جيب نتنياهو، وهذا آخر من يمكنه الحديث عن السلام في المنطقة، تحديدا في هذه المرحلة.
ما هو الهدف إذاً من زيارتي عباس ونتنياهو عُمان، وما الرسالة التي تحملها مسقط إلى المنطقة؟ وهل ثمّة صيغة حل ممكن قد يرضى بها الفلسطينيون؟ وهل في مقدور رجل كنتنياهو، عُرف بمواقفه المتطرّفة حيال الفلسطينيين، تقديم تنازلاتٍ لصالح عملية سلام شامل؟ سيكشف قادم الأيام قدرا من الإجابات. إنما إذا كان هناك ارتباط بين زيارتي عباس ونتنياهو مسقط، كما مع جولة الوزير بن علوي أخيرا في فلسطين ومصر والأردن، وتسليم قادة هذه الدول رسائل من السلطان قابوس، إذا كان هناك ارتباطٌ بين هذا الحراك الدبلوماسي العُماني والقضية الفلسطينية، وبرغبة الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، في العودة إلى طاولة الحوار بهدف الوصول إلى حل، وأن مسقط هي المكان الذي سيحتضن هذا الحوار، فإن هذا الارتباط يأتي، على الأرجح، على مسارٍ أكبر متصل بالقضية الفلسطينية ومنفصل عنها. مسار يجمع أزمات المنطقة في ملف واحد. ويبدو أن عُمان التي وحدها تتمتع بالدرجة صفر في خصومات العالم، مؤهلةٌ أكثر من سواها للقيام بدور الراعي الموثوق فيه، والمحايد والمقبول من جميع الأطراف، لتفكيك قوس أزمات المنطقة.
يقوم هذا المسار، وفقا لقراءة شخصية، على اعتبار أن القضية الفلسطينية جزء من المشكلة وليست المشكلة، وحلها جزء من الحل وليس الحل. وهذا يعني أن المشكلات والخلافات العربية - العربية، والعربية - الإيرانية، والعربية - التركية، تُضاف إليها المشكلات والأزمات الأخرى، المتعلقة بالأمن والتنمية والاقتصاد والتجارة والمياه، تتقاطع وتجتمع على طاولةٍ واحدة مع القضية الفلسطينية التي لن تصبح عربية مركزية. هذا يعني أيضا أن حل بعض المشكلات قد لا يكون مرتبطا بحل المشكلات الأخرى، إلا إذا كانت "صفقة القرن" تعني إسقاط كل العصافير بحجر واحد!
إسرائيل المرفوضة في الوجدان الشعبي، العربي والإسلامي، واقع جغرافي وسياسي. واقع أليم صحيح، لكنه موجودٌ على جغرافيا هذه المنطقة، ويحفّر وجوده في تاريخها أيضا. وإذا كانت هذه الدولة مركز أزمات هذه المنطقة، فلا بد من أن تكون طرفا أساسيا في حل هذه الأزمات. هذا ما يقوله الضعف العربي، وتقوله الواقعية السياسية، وما ألمح إليه بن علوي في مؤتمر حوار المنامة أخيرا. ولكن في معادلة الأزمات والحلول، هناك قوة إقليمية مهمة ومؤثرة، تتحرّك وحدها، خارج المدار الذي تريده واشنطن، وتمتلك ما يكفي من الأدوات لإعاقة أي حل شامل، يُنهي أزمات المنطقة، ما لم تكن شريكا في الحوار، وفي حلٍّ يحقق قدرا من مصالحها. هذه القوة هي إيران، والتي ترفع، أكثر من غيرها، شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية عاليا. لكنه شعارٌ، كما العداء لإسرائيل، لدى قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرتبطٌ بالعداء للشيطان الأكبر؛ الولايات المتحدة التي ناصبت الثورة الإسلامية العداء منذ قيامها عام 1979، فسقوط حكم الشاه تحت ضربات الثورة الخمينية شكل واحدة من الخسارات الكبرى لواشنطن، ولنفوذها في هذا البلد النفطي الكبير. ولأن صديق عدوي عدوي، وعدو عدوي صديقي، أصبحت إسرائيل عدوا لإيران، وباتت القضية الفلسطينية قضية إيران، وفرس الرهان الرابح على رقعة شطرنج السياسة الإيرانية في الداخل والخارج.
وإذا لم تكن إيران دولة مواجهة مع إسرائيل، ولم تخض حربا مباشرة معها، ويبدو دعمها القضية الفلسطينية شعاراتيا، وعاطفيا، إذا ما قورن بالدعم المادي والسياسي الذي قدّمته الدول العربية لهذه القضية، فإنها ليست دولةً صديقة لمعظم جيرانها العرب، بل يشوب علاقتها ببعض هؤلاء الجيران التوتر ولغة العداء، كما الحال مع المملكة العربية السعودية، وهذا يزيد القضية الفلسطينية سوءا وتعقيدا. ويبقى أن دولةً عربيةً واحدةً حافظت، طوال الأربعين عاما الماضية، على علاقةٍ حسنةٍ ووثيقةٍ مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي الوقت ذاته، هي على علاقة استراتيجية وثيقة مع الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية، هي عُمان.

مسقط إذاً هي المنطقة البيضاء التي يمكن لأطراف الصراع أن تتحرّك فيها بحريةٍ وأريحيةٍ، بما فيها إيران وإسرائيل والسعودية، فهي المدينة التي طالما أبقت أبوابها مشرعةً لحوار الفرقاء. وثمّة، في هذا السياق، تجارب وخبرات عُمانية متراكمة، يطول الحديث عنها. ومن يعرف المواقف العُمانية حيال القضايا والأزمات الخارجية يعرف أن السياسة الخارجية لعُمان تقوم على مجموعةٍ من الثوابت والمرتكزات، أهمها تقديم المصلحة الوطنية الداخلية على ما عداها من مكاسب، فلا مواقف ولا اصطفافات تُتّخذ يمكن أن تعرّض المصلحة الوطنية للخطر، مهما بدا الإجماع حولها كبيرا وواسعا، وقد تجلّى هذا في رفض عُمان الإجماع العربي لمقاطعة مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، كما في رفضها حرب التحالف العربي بقيادة السعودية على اليمن. ومنها الوقوف في المنطقة الرمادية، بحيث تبدو مسقط، عند الأزمات، بعيدةً وقريبةً في الوقت ذاته، وعلى مسافةٍ واحدة من أطراف الأزمة، كما كان الأمر في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، وكيف كانت مسقط "القناة الخلفية" التي التقى فيها الطرفان، وتحاورا حتى توصلا إلى إنهاء الحرب. وكذلك دورها الصامت من أجل توقيع الاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة، قبل أن يقرّر الرئيس الأميركي ترامب الانسحاب من الاتفاق، والعودة بالخلاف مع الجمهورية الإسلامية إلى المربع الأول. إضافة إلى الموقف من الأزمة بين ثلاث دول خليجية وقطر، والذي حاول فيه صانع السياسة العُماني الحفاظ على توازنٍ صعب وحرج مع أطراف هذه الأزمة.
ولعل تزامن عودة مسقط (وليس سواها من العواصم العربية أو حتى العالمية) إلى واجهة الحراك السياسي والدبلوماسي في المنطقة، مع بدء سريان حزمة العقوبات الأميركية الجديدة على إيران، كما مع دعوة واشنطن ولندن إلى وقف الحرب في اليمن، هذه العودة هي الرسالة التي أرادت مسقط، ومعها واشنطن ولندن، توجيهها إلى إيران والعرب معا، مفادها أن قوس الأزمات بلغ منتهاه، وأن استقرار إيران ودول الخليج العربية بات أيضا على المحكّ، وأن إسرائيل، بقدر ما هي أحد أقطاب الأزمة يمكن أن تكون طرفا في الحل والاستقرار.