تونس.. ثقافة الاحتكام للدستور

تونس.. ثقافة الاحتكام للدستور

16 نوفمبر 2018
+ الخط -
انتظر رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، مناسبة عرض التحوير (التعديل) الوزاري المقترح على البرلمان، يوم الإثنين 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، ليشرح الأسباب التي جعلته يدخل تغييرا على حكومته، قائلا: قررت إجراء هذا التحوير الوزاري في هذا الوقت بالذات، لوضع حد للأزمة، وتوضيح الأطراف المعارضة من المساندة للحكومة. وأضاف أن "الكثيرين يتحدثون عن أزمة حكومة، في حين أن الأزمة سياسية، ألقت بظلالها على عمل الحكومة التي عملت خلال السنتين الماضيتين تحت قصف عشوائي، تعرّضت فيه إلى النيران الصديقة أكثر من النيران المعادية"، على حد تعبيره. وقد قصد رئيس الحكومة بالنيران الصديقة تلك التي كانت تصدر عن بعض الأحزاب الحاكمة، وخصوصا منها حزب نداء تونس الذي اصطف اليوم في المعارضة.
هل أنهى التحوير الوزاري أزمة تونس السياسية؟ وهل تعتبر تصريحات رئيس الحكومة الرافضة تهم "الانقلاب" و"قتل الأب"، وبالتالي إنهاء الصراع القائم منذ أشهر بين رأسي السلطة التنفيذية؟ تجاوزا لكل ما دار من لغط حول فصول "الحرب الباردة" الدائرة رحاها بين رئيسي الجمهورية والحكومة، الباجي السبسي ويوسف الشاهد، فإن تضاريس المشهد السياسي بدت اليوم واضحة، فالتحوير الوزاري يرى فيه متابعون "سببا لإخراج العلاقة بين رئاستي الحكومة والجمهورية رسميا من ظل النظام الرئاسوي الذي تربى عليه رئيس الجمهورية، ثقافة وممارسة، إلى شمس النظام البرلماني المعدل"، وخصوصا إلى الاحتكام لدستور الجمهورية الثانية الذي حدّد صلاحيات طرفي السلطة (رئيسي الجمهورية والحكومة) ومهامهما
ومسؤولياتهما: فهل تقبّل ساكنو قرطاج رئيسا ومستشارين بالحدود التي رسمها الدستور، لتتجه الأزمة القائمة فعلا إلى الانفراج، أم ستتواصل مسيرة الهروب إلى الأمام ليظل الصراع قائما. الأرجح والمتوقع، وبإجماع أغلب السيناريوهات، أن رئيس الجمهورية لن يخرج عن الخيار الذي التزم به في مناسباتٍ عديدة، وجديدها الندوة الصحافية التي عقدها أخيرا، وهو خيار "رجل الدولة المسؤول عن استقرار البلاد والعباد، فهو فوق الأحزاب وفوق الصراعات يحترم الدستور ويعمل بتعاليمه.. ولن يرضخ لمن يدفعونه نحو بعض الخيارات الخطرة، مثل تفعيل الفصل 80 من الدستور"، وبالتالي لن يذهب بعيدا عما سيقرره البرلمان في ما يتعلق بنيل الثقة لحكومة الشاهد، أو في قبوله أن يؤدي الوزراء الجدد اليمين أمامه، وقد تم ذلك فعلا.
اختار رئيس الجمهورية إذن تغليب مصلحة الدولة، ونأى بنفسه عن ضغوط الدوائر المقرّبة من قصر قرطاج، والتي تقول تسريبات شبه مؤكدة إنها نصحته باستعمال الفصل 80 من الدستور، أي "الاعتماد على مفهوم الخطر الداهم"، لأخذ تدابير استثنائية"، وهو ما من شأنه أن يدفع إلى الفتنة وتعطيل الدستور وكل المؤسسات الديمقراطية.
المؤكّد أن رئيس الجمهورية، على الرغم من الشعور بمرارات الأنا في الإساءة، تجاوز الجراحات التي قد تكون طاولته في الكبرياء والكبر، ليغلّب منطق رئيس الدولة المسؤول، المراعي أحكام الدستور، والخاضع للمؤسسات. وتبعا لذلك، يمكن القول إن تونس تجاوزت الأسوأ، وأن المنتصر الأول والأخير، في النهاية، هو الاحتكام لعلوية الدستور ومؤسساته. وينتظر اليوم، بتعبير أحد أساتذة القانون الدستوري، "أن تكون تونس قد خرجت من تنازع دستوري خطير إلى صراع سياسي تعوّد عليه الجميع، ويتحتم أن يتقيد الجميع بروح القوانين ونصوصها قاعدة مشتركة للجميع.."، وخصوصا أن البلاد مقبلة بعد أشهر قليلة على انتخابات رئاسية وتشريعية، تشكل تحديا كبيرا من أجل إنهاء مسار الانتقال الديمقراطي.
وبالعودة إلى رصد ما يمكن رصده من خلال فصول ما سمّاها بعضهم الحرب الباردة بين رئيس الجمهورية و"ابنه الروحي" رئيس الحكومة الذي خرج من "جلباب أبيه"، فأسباب الصراع معقدة ومتشابكة، منها إكراهات السياسة وصدام الثقافات، ولعبة الحسابات باتجاه انتخابات مقبلة تتجاوز الرجلين، لتشمل أحزابا، في مقدمتها النهضة ومشروع تونس و"المبادرة" والكتلة الديمقراطية الداعمة للـشاهد، والتي ينتظر أن تكون نواة حزبه القادم الذي سيخول له رسم خريطة طريق مستقبله السياسي. والأكيد أن أفضل نتائج هذا الصراع تتمثل في ما كسبته تونس والتونسيون من تعزيز علوية الدستور والمؤسسات الدستورية وثقافة الاحتكام لهذه المرجعيات.
وما ذلك بغريب عن أرضٍ وشعب بادر بوضع الدساتير، وراكم الاحتكام إليها، متقدّما على كل الشعوب والأمم، بدءاً من دستور قرطاج، أعرق الدساتير (القرن السادس قبل الميلاد)، مرورا بدستور عهد الأمان (1861)، ووصولا إلى دستور الجمهورية الأولى في 1959، فالثانية في 2014.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي