المقاومة الفلسطينية.. تكامل الردع والنضوج السياسي

المقاومة الفلسطينية.. تكامل الردع والنضوج السياسي

16 نوفمبر 2018
+ الخط -
بعيداً عن تفاصيل العملية الاستخباراتية الإسرائيلية الفاشلة في قطاع غزة وأغراضها، يوم الأحد الماضي، وما تبعها من تصعيد عسكري، على مدى يومين، بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، فإن أمراً واحداً لا ينبغي الخلاف حوله: لقد انتصرت المقاومة وهزمت إسرائيل في هذه الجولة. وهذا ليس رأياً منحازاً يقدّمه كاتب هذه السطور، بل هو الرأي السائد في إسرائيل نفسها، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، مهما ادّعى غير ذلك رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو الذي كان قد زعم أن المقاومة الفلسطينية استغلت التهدئة المتبادلة التي دخلت حيز التنفيذ يوم الثلاثاء الماضي.
أبعد من ذلك، لنضع جانباً النقد الحاد الذي وجهته وسائل الإعلام الإسرائيلية للعملية وفشلها، سواء لناحية التخطيط أم لناحية التعامل مع ارتداداتها. بل دعونا كذلك نتجاوز النقد اللاذع الذي وجهته الأحزاب الإسرائيلية وشخصياتها لتعاطي حكومة نتنياهو مع تداعيات فشل العملية، واضطرارها إلى القبول بتهدئة أمام رد الفصائل الفلسطينية. لنقل إن ذلك كله يدخل في سياق المناكفات السياسية، والتحضير لانتخابات الكنيست العام المقبل. ولكن، ما لا يمكن غض الطرف عنه هنا هو ما ترتب على العملية من زلزال سياسي في إسرائيل، أطاح وزير الحرب المتطرف، أفيغدور ليبرمان، وضعضع بنى ائتلاف حكومة نتنياهو اليمينية، بل إن فشل العملية وتداعياتها صَعَّدَت من حدة المنافسة الانتخابية داخل تيارات اليمين الصهيوني.

في خطاب استقالته، لم يتردد ليبرمان بالاعتراف بأن "ما حدث (الثلاثاء) من إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار والتهدئة هو بمثابة خضوع واستسلام للإرهاب". قد يقول قائل إن استقالة ليبرمان لا تعدو أن تكون أكثر من مناورة سياسية، ذلك أن استطلاعات الرأي تفيد بأن حزبه، إسرائيل بيتنا، قد لا يتمكّن من تحقيق نسبة الحسم لدخول الكنيست المقبل، وبأنه يخسر قاعدته الشعبية لصالح حزبٍ يميني آخر، منافس له، هو البيت اليهودي. أيضاً، قد يضيف آخر، أن ليبرمان يسعى، في استقالته هذه، إلى أن يقدّم نفسه زعيماً قويّاً، رفض المساومة مع "الإرهاب الفلسطيني"، لكنّ رئيس حكومته، نتنياهو، والوزراء اليمينيين الآخرين في مجلس الحكومة المصغر، هم من انحنوا ضعفاً أمام ذلك "الإرهاب"، وهو ما دفعه إلى الاستقالة. وهكذا، حسب هذا المنطق، يكون ليبرمان قد عزّز من حظوظ زعامته مستقبلاً للتيار اليميني أمام نتنياهو "الضعيف".
يحمل المنطق السابق كثيرا من الصحة، غير أنه لا يختزل المشهد. بداية، ينبغي التذكير هنا بأن ليبرمان هذا كان قد تعهد يوماً بأنه إن أصبح وزيراً للدفاع، فإنه سيغتال زعيم حركة حماس، إسماعيل هنية، خلال 48 ساعة. كما أنه دائماً ما عاب "تردّد" من سبقه من وزراء حرب، بل وحتى المؤسسة العسكرية نفسها. اللافت هنا أن الحركة الاستيطانية التي دفعت بليبرمان وزيراً للحرب عام 2016 هي نفسها التي تصفه اليوم بـ"أسوأ وزير حرب في تاريخ إسرائيل".
السياق الثاني الذي يدل على هزيمة إسرائيل، في الجولة العسكرية أخيرا مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يتمثل في تصاعد حدة التناحر بين الأحزاب اليمينية على تمثيل التيار اليميني الصهيوني المتطرّف. وعلى الرغم من أن تلك الأحزاب ممثلة في الحكومة وفي المجلس الوزاري المصغر الذي صوّت على التهدئة، إلا أن زعماءها يتسابقون اليوم في إلقاء اللوم على نتنياهو "الضعيف". لا يقتصر الأمر على ليبرمان، بل هناك أيضاً وزير المالية، موشيه كحلون، زعيم حزب كلنا، ووزير التعليم، نفتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي، والذي يهدّد بالخروج من الائتلاف الحاكم إذا لم يُعط وزارة الحرب، ما سيعني سقوط الحكومة إن لم يتم التوصل إلى صفقة. بل حتى داخل الليكود نفسه، حزب نتنياهو، ثمّة من يحاول تحدّيه وإطاحته من قيادة الحزب.
ما كان للزلزال السياسي والعسكري أن يقع في إسرائيل، لولا نجاح المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في مراكمة معادلة الردع وتنمية وعيها السياسي. من نافلة القول إن سلاح المقاومة ليس هجومياً بقدر ما أنه دفاعيٌ، على تواضعه. تدرك فصائل المقاومة الاختلال الصارخ في ميزان القوى لصالح إسرائيل، ومن ثمَّ فإنها لا تستدعي الحرب، بل تحاول تجنّبها دائماً، اللهم إلا إذا فرضت عليها. ولكن فصائل المقاومة تدرك، أيضاً، أن قدرتها وقدرة الشعب في قطاع غزة على احتمال التضحيات والخسائر أكبر بكثير من قدرة الدولة العبرية وشعبها، على الرغم من الفارق الهائل في حجم الخسائر بين الطرفين.
مضى أكثر من أحد عشر عاماً على الحصار الوحشي على قطاع غزة. لم يعد لدى الفلسطينيين الكثير ليخسروه، خصوصاً وهم يراقبون، بمرارة، تعنت السلطة الفلسطينية ومصر في رفع الحصار من جانبيهما. ولأن إسرائيل لا تفوّت فرصةً للفتك بأهل القطاع، فإن المزاج الشعبي هناك يميل إلى التحدي والانتقام، مهما كانت التداعيات، في حال فرضت عليهم المعركة. قارن ذلك بتذمر معنويات سكان غلاف قطاع غزة من الإسرائيليين واهتزازها، في كل مرة يكون هناك تصعيد عسكري.
من ناحية ثانية، أثبتت جولة المواجهات أخيرا مستوى النضج السياسي الذي وصلت إليه المقاومة الفلسطينية. لقد تحكمت فصائل المقاومة، عبر "غرفة العمليات المشتركة"، بمستوى الرد ومداه. لم تلجأ إلى معركة مفتوحة، وحافظت على توسيعٍ مضبوط ومتدرج في ردها، بحيث لم تتعد المستوطنات والبلدات القريبة من القطاع. كما أن استهدافها الحافلة العسكرية بصاروخ كورينت جاء بعد أن نزل الجنود منها، على الرغم من أنها كانت تراقب حركتها بدقة، كما كشف الفيديو الذي نشرته. إن دل ذلك على شيء، فإنما يدلّ على مستوى التنسيق
العالي بين القيادتين، السياسية والعسكرية، لتلك الفصائل، بحيث جاء الرد العسكري المحدود والمتدرج في خدمة الموقف السياسي الساعي إلى استعادة التهدئة وعدم دفع الأمور إلى الانفلات إلى معركةٍ مفتوحةٍ ومدمرة. كان ثمة إدراك لدى القيادة السياسية لفصائل المقاومة أن نتنياهو غير معنيٍّ بمعركةٍ عسكريةٍ واسعةٍ مع اقتراب انتخابات الكنيست، ومن ثمّ فإنها وظفت العمل العسكري المنضبط لخدمة مفاوضات التهدئة التي كانت قائمة قبل العملية الفاشلة. وبالمناسبة، كانت تلك المفاوضات قد وصلت إلى مستوى متقدم، وهو ما جعل حكومة نتنياهو تسمح، قبل أيام من العملية، بدخول خمسة عشر مليون دولار مقدّمة من قطر لدفع رواتب موظفي قطاع غزة.
باختصار، أثبت التصعيد العسكري الإسرائيلي أخيرا في قطاع غزة أن المقاومة الفلسطينية ليست عبثية، ولا هي عدمية، بقدر ما أنها محكومةٌ بحسابات سياسية دقيقة وذكية، وإن كان هذا لا يعني أنه قد لا تكون هناك حرب إسرائيلية أخرى مدمرة على غرار اعتداءات سابقة. إن قرارَي الحرب والسلم ليسا فلسطينيين، بقدر ما أنهما يخضعان لمزاج قادة الدولة العبرية وسياساتها العدوانية. وفي كل الأحوال، تدرك إسرائيل أن قوتها العسكرية الساحقة لم تعد سلاحاً رادعاً، فالتعامل مع الشعوب وقوى المقاومة غير التعامل مع الأنظمة والدول. هذا ما خبرته الولايات المتحدة في فيتنام ثم العراق، وهذا ما خبره الاتحاد السوفييتي الآفل في أفغانستان، وهذا ما خبرته إسرائيل نفسها في جنوب لبنان، ثمَّ في قطاع غزة.