عن أحوالنا وأسس المشروع العربي

عن أحوالنا وأسس المشروع العربي

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
أحوال عالمنا العربي تستدعي مشروعاً عربياً، وهذا لا شك فيه، فكيفما ناقشنا أوضاع هذه الدولة أو تلك، في المشرق أو المغرب، وجدنا ضرورة ذلك المشروع. ما يحصل في سورية والعراق واليمن وليبيا، والانقسامان، الخليجي والمغاربي، فكيف لو تحدثنا عن فلسطين ومأساتها القديمة، والعدوان أخيرا على غزة؛ أقول إن ذلك كله يتطلب مساراً عربياً جديداً مختلفاً.
لا نريد تحويل عبارة حاجة العرب لمشروع قومي، إلى مجرد كليشيه، يكتبها الكتاب والمحللون والباحثون في متن نصوصهم أو نهايتها، وتؤكّد على ذلك. أصبحت الحالة العربية تستدعي ذلك، لكن السؤال: أين العامل الذاتي، ولنقل أين الحركات السياسية والثقافية العربية التي تدعو إلى ذلك؟ أليس المتشائمون "ينعقون" علينا ليلاً نهاراً، أن العرب لم ينحشروا في داخل أقطارهم فقط، بل وفي دواخل طوائفهم وقبائلهم ومناطقهم.
إذاً النقاش الخفيف يقول بنفول ذلك، بينما تقول أحوال عالمنا إن التجارب القومية سقطت ولا شك، والدولة القُطرية لم تستطع أن تكون نهاية المآل، ولم تنجز مشروعاً لأمةٍ قطريةٍ فانتازية، وحتى حكاية سورية أولاً أو مصر أولاً السمجة لم تجدِ نفعاً، بل هي انحدرت بالعرب إلى حدودِ توزعهم الجغرافي، والما قبل هوياتي "طوائف، قبائل، أديان"؛ إذاً هناك ضرورة لمشروعٍ جديد للعرب.

لنتأمل عيّنةً من النقاش الذي لا يُحتمل: إن الخلاف حول تقطيع جمال خاشقجي وتذويبه مجرد تصفية حسابٍ بين قطر والسعودية، وضرورة التنديد بإيقاف العدوان الإسرائيلي تصبح غايته محاولة حركة حماس إخراج إيران والسعودية من ورطتهما المستجدة، خاشقجي والعقوبات الأميركية الجديدة. .. وهكذا تتفّه المشكلات العربية، والمواقف السليمة ضد إرهاب الدول إلى مجرّد مماحكاتٍ لصالح هذه الدولة أو تلك.
هناك كلام كثير خارج سياق طرح المشكلات التي تواجه العرب: وبالتالي، كيف يمكن تجديد المشروع العربي النهضوي؟ هذا المشروع تستدعيه أحوالنا، وبدءاً من اللعب الإقليمي في الدول العربية، وضرورة إسقاط الأنظمة العربية التي أصبحت تستجدي ديمومتها من خلال التبعية الكاملة، وتمارس أشد أنواع الديكتاتوريات. والأسوأ أن هذه الدكتاتوريات تلاقي تأييداً من يمينٍ أوربي وعالمي لا يعترف للشعوب بأيّة حقوقٍ؛ فهناك تأييد للنظام المصري أو السوري، أو اللعب بما يخص قضية جمال خاشقجي، بينما المتهم الأساسي واضح وضوح الشمس. وحتى إيران لا تواجَه جدّياً، وتُركت لتتحوّل إلى لاعبٍ أساسيٍّ في المنطقة في زمنِ الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وحتى تشدّد ترامب يقتصر على عقوبات اقتصادية خطيرة، والتي سيكون لها تأثير كبير ولا شك على إيران، لكن المتضرّر الأساسي منها هو الشعب الذي يعيش أزمة اجتماعية تفجرت أواخر عام 2017، وتتجدد انتفاضاته من دون توقف. العالمُ الآن يحذّر من خطورة الشعبوية التي تنتهجها الأنظمة السياسية عالمياً، والتي تضحّي بكل المكتسبات التي حققتها الطبقات المفقرة، والدولة الطرفية، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وبعدها.
ماذا سيفعل العرب إذاً، وهم يرون السعودية تنسق مع إسرائيل بخصوص إيران وصفقة القرن، وماذا سيفعلون، وهم يجدون الإسلام السياسي لا يحسم في قضية العلاقة مع السياسة، ولا يتبنّون الوضعية في السياسة، وحصر الدعوة الدينية في قضايا الدين والإيمان والأخلاق وسؤال الآخرة والله، وكيف يفعلون وهم يتأملون الحوار الليبرالي الفاسد ضد مفاهيم العروبة والاشتراكية ومسألة الطبقات وتمجيدهم الشعبوية التي تنتج أسوأ أشكال الليبرالية، بما فيها قتل اليساريين، كما قال الرئيس الجديد للبرازيل، جايير بولسونارو. إذاً هناك تعقيدات كثيرة أمام تغيير الاتجاه الذي يسير فيه العرب.
يتجدّد النقاش الذي انتهجته الأنظمة العربية قبل سقوط بعضها في العام 2011، وهو أن الشعب لن يثور، وسيتم قمعه سريعاً. الجديد فيه تأكيده أن الثورات المضادة انتصرت كلّيّا، ولم يعد من ربيعٍ عربي ودخلنا في شتاء قاسٍ، عقودا طويلة، وأن فرصةً "نادرة" ضاعت ولن تتكرّر، أي الثورات الشعبية.
يتجاهل هذا الرأي أن تاريخ العرب في القرن العشرين اختبر تغييراتٍ عاصفة، قبل الاستعمارات وفي أثنائها وبعدها، واختبر الدول القُطرية "الأبدية"، ووصولاً إلى الثورات الشعبية وإطاحتها أنظمةً وتغيير أنظمةٍ وتحويل أخرى إلى مجرد أدواتٍ للخارج. القصد أن كل هذه التغييرات تستدعي تأملاً دقيقاً، في أحوالنا، والبحث عن مشروعٍ لا يقطع مع الماضي ولا يكرّر تجاربه، وينهض بأحوال العرب من التبعية إلى التقدم.
حصلت الثورات الشعبية، ولم تكن التيارات الثقافية والسياسية تتوقعها، ربما باستثناء حالاتٍ نادرة "مثقفين وتنظيمات"، وهذا يوضح حالة العلم والثقافة والسياسة العربية. وعلى الرغم من زلزال الثورات، بقيت تيارات ثقافية وسياسية تشكّك في حدوثها! نعم، هناك إشكالية ثقافية وسياسية مع الشعوب، حيث يسود اعتقاد أنّها لا تثور، وإن ثارت ستدمر ما تشكَّل من قبل، إذاً لا خيارات أفضل من بقاء الأنظمة القائمة ووجوه زعمائها السّمحة، والعمل من خلالها، وهذا لعمري من أسوأ الأفكار، وكأنّ الثورات كانت ستحصل، لو كانت الأنظمة تتيح المجال للشعوب للتنفس، وليس للمشاركة السياسية.
تبدأ أسس مشروع عربي جديد من إيجاد عملٍ لملايين المفقرين في عالمنا، وهذا يتطلب بنية صناعية كاملة، تشمل كل قطاعات الاقتصاد، وتنتج الآلات، كما أية دولة متقدّمة. وفي هذا سيكون للدولة العربية دور أساسي، وكذلك للرأسمال الخاص هذا أولاً. وثانياً ويرتبط به، لا إمكانية لتحقيق الشرط الأول من دون الانتقال إلى نظام ديمقراطي، يسمح بصراعٍ بين البرامج
السياسية، وتأسيس دولةٍ حديثة وفقاً لدستورٍ وضعي، وهذا يدفع إلى حسم قضية العلاقة بين الدين والسياسة جذريا، وتنزيه الدين عبر مسائل الإيمان، ووضعنة السياسة عبر صراع البرامج السياسية، وتمثيل الشعب وفقاً لحاجاته. والشرط الثالث، ويتعلق بالتعليم، وأن يكون عقلانياً، ووضعياً بالكامل، وألا يرتبط بحاجات السوق، بل بحاجات المجتمع بكليته. يتطلب تحقيق هذه الشروط حركاتٍ سياسيةً وثقافية متنوعة، وبالتأكيد ستخوض صراعاتٍ متعدّدة الأوجه مع الأنظمة والدول المسيطرة عالمياً وإقليمياً.
لا يتنافي ما تم ذكره أعلاه مع ضرورة البحث عن مشتركاتٍ بين الدول العربية، ويتطلب بالضرورة رفضاً كليّاً لأي اعتراف نهائي بإسرائيل، ورفض التمدّد الإقليمي في العالم العربي. وبعد كل ما ذكرت، أقول، لن تتمكّن الأنظمة التابعة من حل مشكلات المجتمع العربي، فهي سببها، أي هي من شكّلتها موضوعياً. أما من يمتلك القدرة على الحل فهو الشعب "الذات"، وهذا سيتعلم من كيسه "تجاربه"، والتي لا تُختصر بالثورات الشعبية التي اندلعت أواخر 2010، بل بالتاريخ العالمي كلّه، وتحديداً بتاريخ الثورات وتغيير الأنظمة في القرن العشرين.