ظريف والحق الغائب

ظريف والحق الغائب

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
قال الإمام علي إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق.. والمؤكّد أن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، انصرف عن الحق في كثيرٍ مما أجاب به عن أسئلة الزميلة فرح الزمان شوقي، في المقابلة التي نشرها "العربي الجديد" (13/11/2018). ومن هذا الكثير زعمُه أن سياسات بلاده ليست هي التي تؤدّي إلى إشكالاتٍ في المنطقة، بل سياساتُ أصدقاء أميركا والغرب. وكأن الرجل يريد توريطَنا في مفاضلةٍ بين إيران والسعودية التي قصدها في كلامه، ورشَقَها بهجماتٍ غير قليلة في المقابلة، لعلنا نخْلصُ إلى أن بلادَه، في سياساتها المنظورة قدّام الجميع، منقطعةٌ لنشر السلام وتوزيع الأمن والأمان في مشرقنا العربي العتيد، على غير ما تقترف السعودية وأمثالُها. وفي هذا الكلام تحايلٌ كثير، وتشاطرٌ ظاهر، يُردُّ عليهما بالطلب من الوزير ظريف أن يُخيّط بغير هذه المسلّة، فليس خيار الشعوب العربية هو هذا، وإنْ بدا أن أهل المراس السياسي الإيراني، المحنّكين الدّهاة، ربما نجحوا، بعض الشيء، في أن يتسّرب إلى أفهام بعضٍ قليلٍ في مجتمعاتنا العربية أن الذي تسلكه إيران، عندما تُناهض الولايات المتحدة وإسرائيل، هو الأدعى أن يكون خيارَنا، فيما الضلالاتُ السعودية المستمرّة لا يجوز بشأنها غير النبذ والرفض. .. وفي هذا الكلام تشويشٌ كثيفٌ على الحق والحقيقة، تساهم فيه الرياض، بما ترتكبه من حماقاتٍ ومغامراتٍ طائشة، وتُشيع طهران القسط الكثير منه بالحيل الدعائية واللفظية إيّاها، مثل التي زاولها جواد ظريف في "العربي الجديد"، وهي حيلٌ تتوسّل التعميةَ على سياسات استباحة الأوطان العربية، ومحاربة أشواق الشعوب العربية للتحرّر من الاستبداد والاضطهاد، وانتهاك هذه الشعوب باستثارة النزوعات الطائفية فيها، وتقوية تكويناتٍ على أخرى.
أشاح جواد ظريف عن الحق أيضا لمّا قال إن وجود إيران في سورية جاء أساسا لمكافحة الإرهاب. وهنا، في الوسع مخاطبة الوزير، الموصوف عن حقٍّ بالذكاء، بأنه لم يكن ليخسر شيئا لو قال إن المليشيات الإيرانية في الأراضي السورية، ومعها جموع المرتزقة التي استقدمتها طهران من غير بلد، إنما تقوم بدورٍ أساسي في حماية نظام الأسد الذي تداعى كثيرا، قبل أن تنتشله قواتٌ روسية مهيأة بأعتى الأسلحة. ومعلوم أن آلافا من ضحايا الأنشطة العسكرية الإيرانية والروسية مدنيون عزّل، عدا عن كثيرين تعرّضوا إلى تهجير وإبعاد من بلداتهم وقراهم، بما أعملتها فيهم إيران تحديدا، ومشايعوها، بدوافع مذهبيةٍ غير خافية. وهذا ملفٌ تتولاه أجهزة نشطة، ليس في مقدور ابتسامات السيد ظريف أن تُنكر تفاصيل الجاري فيه ميدانيا، في محيط دمشق وجنوبها مثلا. وعندما ينفي الوزير، وهو صاحبُ همّةٍ ظاهرةٍ في مخاطبة العالميْن، العربي والإسلامي، في نوافذ إعلامية وازنة، وجودا عسكريا إيرانيا في جنوب سورية، فإنه يورّط نفسه في دور السياسي الذي يرقّع أفعال العساكر وصنّاع الحروب. ويتورّط في مخالفة ما أعلنه حلفاء بلاده الروس عن انسحابٍ عسكريٍّ إيرانيٍّ في الصيف الماضي من الجنوب شمالا، بعد أن طبخ هؤلاء تفاهمات انتشار جيش الأسد في محافظات الجنوب، وصولا إلى الحدود مع الأردن، الأمر الذي تبعه، أخيرا، تعزيز إيران حضورَها العسكري، في محافظتي درعا والسويداء، مع وجودٍ لحزب الله الذي يقوم، بعونٍ من خبراء عسكريين إيرانيين، بأدوار لوجستية في تأمين ظهر جيش الأسد. والمقلق في الأثناء، وإنْ مع ندرة التقارير الميدانية من هناك، أن عملا موصوفا بأبعادٍ طائفيةٍ ينشط في قرى المنطقة وبلداتها، الأمر الذي راوغ بصدده جواد ظريف، في قوله إن وجود حزب الله في الجنوب السوري مؤقتٌ، ولمواجهة الإرهاب.
لا تُقبض أطروحة إيران بشأن تشكيل مجمع حوار إقليمي، يشمل إيران والعرب (وتركيا)، كما أعاد جواد ظريف التذكير بها، على محمل الجد، فالوقائع الماثلة، في اليمن والعراق وسورية ولبنان، والتي تُهندسها إيران، في ظل انكشافٍ عربيٍّ مريع، لا تسوق إلى حسن الظن بالتدبير الإيراني الذي لا يكفّ عن التدخل في تفاصيل أكثر من بلد عربي، كما عرقلة تشكيل حكومةٍ جديدةٍ في لبنان، وتزبيط حكومةٍ بمقاساتٍ مطلوبةٍ في العراق.. وأمام هذا كله، وغيره كثير، يبدو أن الوزير جواد ظريف اجتهد كثيرا في بثّ ما أراد بثّه في مقابلته الصحافية، غير أن صلاحية ما بلغنا منه سريعة العطب.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".