الدولة تنتفض على منافسيها في لبنان

الدولة تنتفض على منافسيها في لبنان

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
المسألة معيشية يومية جداً. اللبنانيون يعتمدون على طاقتين للكهرباء: واحدة تؤمنها الدولة، والأخرى تؤمنها مجموعة من أصحاب المولّدات. وهذه الازدواجية ناجمةٌ عن عجز الدولة اللبنانية، ثلاثة عقود، عن إعادة انتظام التيار الكهربائي إلى ما كان عليه عشية الحرب الأهلية. تنتفض الدولة، اليوم، على هذه المجموعة الخاصة. تريد منها مراقبة عدّاداتها، وخفض تسعيرتها، نظراً لحرص الدولة على فلوس المواطن، وتعزيزاً لـ"الإصلاح الإداري". المهم أن مناوشاتٍ حصلت بين الدولة وتلك المجموعة. ولم تعد هذه الأخيرة مجموعة، إنما "تجمّع مالكي المولّدات"، له لجنته وبياناته وجمعياته العمومية، ومحاموه وعزَة نفس.. ما يتجاوز حدود الدولة، ما يسهّل تحدّيها لها.
وتشي القصص المرويّة عن كبار هذا "التجمّع"، والممتدة على سنوات "غرس" المولدات في الأحياء، بأن معارك صغيرة، بحجم القرى والبلدات والأزقة، استطاع بنتيجتها أولئك "الكبار" من أصحاب المولدات، أي أقواهم على الساحة، أثراهم أو أكثرهم نفوذاً، أن يمنعوا أية منافسة من صغارهم، أو متوسّطيهم.

وبلغت القوة بأعضاء هذا التجمّع أنهم لم يلتزموا بقرارات وزير الاقتصاد، وردّوا على "انتفاضة" الدولة بأحسن منها. فوق العصيان، هدّدوا بـ"الإضراب"، أي الامتناع عن تزويد المواطنين بالكهرباء ساعتين إنذارا للدولة. وعشية تنفيذهم هذا "الإضراب"، أصدروا بيانا موجّهاً للأهالي، قالوا فيه إنهم لا يستهدفونهم، ولا يريدون الإضرار بمصالحهم، إنما هم بخدمتهم، يضعونهم في قرّة عينهم. فيما "إضرابهم" هو للحفاظ على حريتهم في استغلال المواطن، من دون حسيبٍ ولا رقيب؛ مطلبهم ألف ليرة لبنانية على الكيلووات من الكهرباء، زيادةً على تسعيرة الوزارة (الوزارة: 3 آلاف، التجمّع: 4 آلاف). والاثنان، الدولة و"التجمّع" لا يفوِّتان فرصةً من دون إبلاغ المواطنين عن حبّهما لهم.
الكباش بين الاثنين لم تُحسم نتائجه حتى الآن. ربما يفرغ من هوائه، بين ليلةٍ وضحاها، فينْكمش، وننساه. وربما يتطوّر، وتكون النتيجة عَتَمة فوق عَتَمات. ولكن المهم أن "تجمع مالكي المولدات" يتصرف وكأنه دويلة داخل الدولة؛ لا هيبة لها عنده، ولا قرار. وهذا بفضل تنظيمٍ وتغطيةٍ ونفوذ، تحيلك مباشرةً إلى نشأة دويلة أخرى، أقوى من هذا "التجمع"، وأقدم منه.
وسياق ولادة الاثنين واحد تقريباً: كان على الدولة اللبنانية أن تحمي الحدود الوطنية مع إسرائيل في نهاية الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. لم يحصل ذلك. بل تمكّنت مجموعةٌ منظمةٌ ومموَّلة أن تأخذ على عاتقها تلك المهمة، فكانت دويلة حزب الله. تمكّنت هذه المجموعة المنظمة من الإمساك بقرار الحرب والسلم في لبنان، فصارت تنافس الدولة على النفوذ والقرار: دويلة داخل دولة. تتقاسم الثانية مع الأولى المهمات الوطنية الكبرى، مع تفوّق واضح للأولى. مع الكهرباء، يحصل ما يشبه هذه النتيجة: الدولة عاجزةٌ عن تنظيم الشأن الكهربائي. تتشارك مع مجموعةٍ خاصةٍ في تأمين الكهرباء، اسمها "تجمع أصحاب المولدات". لكن الدولة الآن تحتاج سيولة، فتشنّ حملة على "تجمّع مالكي المولدات"، لتحصيل ملاليم، في عملية تبديل المحصّلين. وهذا "التجمع" يعاندها، ويتصارع معها على هذه الملاليم، ويكاد يغلبها. دويلة "تجمع مالكي المولدات" تتمكّن من مثال الدويلة المثالية. مثال نجحَ وترسخَ، ويمكن أن يصلح نموذجاً تنظيمياً لدويلةٍ في دولةٍ لا تملك حدوداً. إنه نموذج الأمر الواقع الذي لا سبيل إطلاقا لتجاهله. تلك الحدود الضائعة هي التي تنصهر فيها الدولة مع الدويلة، ويصبحان كياناً واحداً، أو على الأقل كيانين حميمين، ثابرا، طوال العقود الماضية، على بناء دويلةٍ تقضم من الدولة ما تشاء.
الآن، انظر إلى الشائع من التحليلات اللبنانوية بشأن هذه المناوشة التنافسية. وهي تقوم على ملاحظة أن وزير الاقتصاد، المعني المباشر بالقرارات الرسمية، وبالمواجهة مع "تجمّع مالكي المولّدات"، ينتمي إلى التيار العوني. ويتحمّس لمعركته هذه زميلاه العونيان، وزيرا الطاقة والعدل؛ وهذا الأخير بادر إلى نصرة زميله، فأعلن عن نيّته صياغة تشريعٍ خاص لمعاقبة "المتمرّدين على الإجراءات الإدارية"، متهماً "التجمع" بالعمل على "ليّ ذراع الدولة". كل هذا للقول إن معركة الكهرباء هذه، وفي سياقها المحدّد جداً، أي استعصاء تشكيل الحكومة، في عقدة فجّرها حزب الله عُرفت بـ"سنّة 8 آذار"، ووقوف الرئيس ميشال عون، أي زعيم التيار العوني، ضد الخيار الحزبلهي.. تملك هذه المعركة الخلفية اللازمة لكل معركة لبنانية: بمعنى أنها "ملغومة"، ككل معارك الحق في لبنان، وبأن تحريكها يتم الآن في سياق ذاك التوتر القائم بين التيار العوني وحزب الله.
وإذا صحّ هذا التحليل اللبنانوي، نكون أمام شيء من العبث: هذا التيار العوني الذي عقد مع حزب الله حلفاً استراتيجياً، الذي غطّاه دولياً ومسيحياً، فردّ عليه "الحزب" بترفيع رئيسه إلى قمة الجمهورية؛ هذا التيار الذي عزّز أركان الدويلة الحزبلهية لا يمكنه أن ينال حفنةً من حق
الدويلة عليه. هي أقوى منه. هي التي صنتعه، ليس هو الذي صنعها. وهو، بصفته تيارا مهموما بالناس وبالإصلاح، لا بد أن يفعل شيئاً، أن يعمل كأنه يأتي إلى الخزينة المفْلسة بمالٍ سوف يجر المال. ولا ضرَر في هذه الحالة من اختبار دويلة الدويلة، لعلّه، أي التيار العوني، يظفر بشيءٍ من الدولة. لا يمكنه الاقتراب من حقوق الدويلة الكبرى، هي التي لها عليه فضل، في وسعه فقط "الحرْكشة" بالدويلات الأصغر، فيكون وزيره في الاقتصاد من أبطال حقوق الدولة، يكون ابتُكِر له دور، على الخشبة، وتكون معركة، ولا بد من سيناريو. ولا همّ بعدها، إن كانت المعركة خاسرة أو رابحة. وماذا يعني، ساعتئذ، أن تربح الدولة، أو يربح "تجمّع أصحاب المولدات"؟ ماذا الذي سيصلح أصلاً في الأداء الكهربائي؟ المهم تحريك الأدوار، إنعاش الخشَبة، إضفاء بعض المعنى على شعار "الرئيس القوي"، وعلى رتابة الهدر للأيام.
تُرى، كم من الدويلات بُنيت في ظلال الدويلة الكبرى، طوال كل هذه السنوات؟