في ذكرى رحيل عرفات

في ذكرى رحيل عرفات

14 نوفمبر 2018
+ الخط -
لعلّ أكثر ما ينبغي استعادته في ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات (2004) التي صادفت أخيرًا، هو الاجتهاد الإسرائيلي في كل ما يتعلّق بإهالة التراب على الحضور الطاغي لغيابه، من خلال محو إرثٍ مُحدّدٍ تميّز به، وفحواه رفض متواصل، وإصرار على عدم مماشاة الإملاءات الإسرائيلية لعملية التسوية الدائمة مع الفلسطينيين، خصوصًا بعد أن انطلقت في طريق مفاوضات سياسية، لم تكن مشقوقةً قبل توقيع اتفاقيات إعلان المبادئ (أوسلو) في 1993، وذلك من دون التقليل من خطورة تلك الاتفاقيات، ومسؤولية القيادة الفلسطينية عنها.
وجاءت عملية الإهالة هذه بمثابة تتويج لعملية شيطنة عرفات، والتي بدأت تحديدًا بعد انفجار الانتفاضة الثانية عام 2000. وهي عمليةٌ لم تكن اختراعًا جديدًا، بل ابتكارا ضارباً في القدم في ممارسة الصهيونية منذ بداياتها، فهذه الممارسة صوّرت الإنسان العربي، لمجرّد كونه نبتةً أصيلة في الوطن الذي طمعت في اغتصابه، وفي تجريد أصحابه منه، في أبشع هيئة. ولذا، ما من شيء أكثر سهولةً وخفّةً في إسرائيل من العودة إلى هذا التصوير الشائه للفلسطيني كلما لزم الأمر. لا يغيّر في هذا إن كان عرفات "له يد مباركة" في السلام أم "له يد متضادّة" في نقضه، لأن الطرف الذي يحدّد "البركة"، و"السلام" أيضًا، وبالتالي يحدّد ما يتضادّ معهما، هو إسرائيل.

ومنذ اندلاع الانتفاضة، اجتاحت الأجواء دعاية إسرائيلية للحرب، تقطيع المفاهيم بشأنها نادرًا ما يختلف باختلاف أصحابها. ومثل هذه الدعاية كان جمهورها المستهدف (الإسرائيلي) كله آذان صاغية، لسببٍ بسيطٍ، هو أن هذا الجمهور يُتقن جيدًا تنميط شخصية الفلسطيني، من أجل تدعيم "تصوره الذاتي" في الأساس.
وسبق أن أكّدت دراسات عدة أن الحاجة إلى الإعلان عن وجود عدو مناوب نبعت، أولًا وقبل أي شيء، من عدة احتياجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة في دولة الاحتلال، فهذا الأمر يتيح، أولًا، تعزيز تضامن الإسرائيليين في مواجهة ما ينظر إليه عدوا متربّصا وخطر محدقا. ويتيح ثانيًا فهمًا أفضل للحاضر الذي يتراءى جزءا من سياق تاريخي طويل، وربما حتمي، من الصراعات والحروب المفروضة على اليهود. وهو ثالثًا وأخيرًا يتيح التهرّب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع. وفي ظل هذا الوضع، يغدو من السهل العودة إلى لازمة "لا يوجد شريك للحوار" (في الجانب الفلسطيني أو العربي)، والتي تحولت إلى مبدأ مهم في سياسة إسرائيل الخارجية منذ قيام دولة الاحتلال.
وأذكر أن أمر شيطنة عرفات في ذلك الوقت بلغ، لدى أحد الساسة الإسرائيليين الأكاديميين، وهو البروفسور شلومو أفينيري، المدير العام السابق لوزارة الخارجية، ولدى غيره كذلك، حدّ تشبيه عرفات بهتلر، والتمنّي على الفلسطينيين أن "يتحرّروا من إرثه، حسبما أفلح الشعب الألماني في التحرّر من إرث هتلر"!
وفي سياق آخر، أشاد أفينيري أيضًا بمقارنةٍ سبق أن عقدها الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي بيلين، في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية، ما بين عرفات والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لجهة أن كلًا منهما وعد شعبه بالخلاص، لكنه "منحه نظامًا رمزه كامن في البزّة العسكرية التي لم يقدر أي منهما على خلعها، ولو لحظة واحدة".
وهكذا، فحتى بزّة عرفات العسكرية لم تسلم من ردّات الفعل الإسرائيلية على هذا القائد الوطني. وبموجب ما ذكره الكاتب دورون روزنبلوم، قبل سنوات، فإن معظم الإسرائيليين الذين أشاروا باستعلاء إلى العسكرية المستترة في شخص عرفات، وفي أدائه القيادي، لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهم يرتدون البزّة العسكرية، وإذا لم تكن بزّة مادّيةٍ، يمكن لمسها ورؤيتها، فهي بزّة ذهنية، بدءًا من شعبة "أمان" (الاستخبارات العسكرية) وسائر عناصر المخابرات، مرورًا بالمعارضة الرئيسية وحتى رئيس الحكومة نفسه. وبرأيه، ربما كانت البزّات العسكرية للقيادة الإسرائيلية أكثر هندامًا، أو تم استبدالها بأخرى مدنيّة، لكن هذه القيادة لم تتجاوز في نضجها القوة العسكرية، ولم تكفّ لحظة عن التفكير بمصطلحاتٍ أمنيةٍ تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه مسألة وجود إسرائيل عمومًا.